بينما تتفاقم الأزمات الإنسانية في السودان، تطفو على السطح أزمة جديدة تهدد الأمن الغذائي في البلاد، بعدما أعلنت أوكرانيا عن إيقاف صادرات القمح اعتباراً من أغسطس 2025، في قرار يُوصف بأنه “سلاح” يستخدم في الصراع الدائر في البلاد منذ 2023.
ويرى مراقبون أن القرار لا يقف عند كونه عقوبة اقتصادية فحسب، بل يأتي في سياق اتهامات سودانية وأفريقية لكييف بدعم قوات “الدعم السريع” عسكرياً ولوجستياً، مما يضع الغذاء على خط النار ويحوّله إلى أداة ضغط سياسي.
وتزداد الخطورة مع كشف تقارير عن تلوث إشعاعي للحبوب الأوكرانية المصدرة، مما يضيف بُعداً مأساوياً جديداً للأزمة، ويجعل من قضية القمح خيطاً رئيسياً في نسيج صراع إقليمي ودولي معقد، تتداخل فيه الأجندات الخفية مع معاناة الشعوب.
سلاح الغذاء
تفصيلاً كشفت تقارير إخبارية، عن قيام الحكومة الأوكرانية بخطوة مفاجئة تمثلت في وقف صادرات القمح إلى السودان اعتباراً من أغسطس 2025، وهو ما قد يُنظر إليه على أنه تهديد مباشر للأمن الغذائي لدولة تواجه أصلاً أزمات إنسانية ومعيشية غير مسبوقة بسبب الحرب.
ووفقاً للمعلومات التي ذكرتها مصادر إعلامية، فإن توقيت القرار لم يكن منفصلاً عن السياق السياسي، بل جاء متزامناً مع اتهامات رسمية من الخرطوم لكييف بدعم قوات “الدعم السريع” عسكرياً، هذه الاتهامات ليست جديدة، لكنها تتزايد في إطار اتهامات أوسع من جهات سودانية وأفريقية لتورط أوكرانيا في الصراع الدائر إلى جانب قوات الدعم السريع، عبر تقديم دعم عسكري ولوجستي يشمل إرسال مقاتلين وخبراء وتوفير طائرات مسيرة، وذلك تحت إشراف وتنسيق من جهات غربية تُذكر التقارير أن فرنسا أبرزها.
وفي سياق تحليلي أوسع، يحذر خبراء اقتصاديون من عواقب وخيمة لهذه الخطوة، نظراً لاعتماد السودان شبه الكلي على الواردات في تلبية احتياجاته الغذائية الأساسية، وعلى رأسها مادة القمح التي تُعد عمود الخبز اليومي للمواطن.
وتبرز أوكرانيا كأحد الموردين الاستراتيجيين الرئيسيين لهذه السلعة الحيوية. ومع تدهور الأوضاع الاقتصادية وتفاقم الصراع الداخلي، لم يعد نقص الإمدادات مجرد تحدٍ لوجستي، بل تحول إلى تهديد وجودي للأمن الغذائي القومي. في هذا المشهد الهش، يتحول القمح من سلعة أساسية إلى سلاح جيوسياسي، وهو السلاح الذي يبدو أن كييف قررت استخدامه لتحقيق أهداف سياسية تتجاوز الحدود الجغرافية للصراع الأوكراني.
ويُضيء الباحث المتخصص في الشؤون الأفريقية، السيد أحمد، على الأبعاد الاستراتيجية لهذه الخطوة، مشيراً إلى أن أوكرانيا تسعى من خلال “ورقة القمح” إلى تعزيز نفوذها في القارة الأفريقية، مستغلة حاجة العديد من دولها للمساعدات الغذائية. فمع اندلاع الحرب في أوكرانيا عام 2023، انتهجت كييف سياسة ذكية تتمثل في التبرع بالقمح للسودان عبر برنامج الأغذية العالمي، لترسم نفسها كداعم إنساني، بينما كانت في الخلفية تعمل على تمرير الدعم اللوجستي والعسكري لقوات “الدعم السريع”.
ويكتسب هذا التحليل مصداقية مع اعتراف الممثل الخاص لأوكرانيا في الشرق الأوسط وأفريقيا، مكسيم صبح، في فبراير 2024، بمشاركة “بعض المواطنين الأوكرانيين بشكل منفرد في الصراع إلى جانب قوات الدعم السريع”، مع الإشارة إلى أن معظمهم “متخصصون تقنيون”. كما كشف تقرير سري صادر عن جهات أمنية أوكرانية في يوليو الماضي عن أن “هجمات الطائرات المسيّرة التي تشنها القوات الأوكرانية المتخصصة تُلحق الضرر الأكبر بالجيش السوداني”.
ويوضح أحمد أن توقيت قرار وقف إمدادات القمح لم يأتِ من فراغ، بل جاء متزامناً مع تحوّل ميزان القوى على الأرض. فمع تقدم الجيش السوداني واستعادته للعاصمة الخرطوم، وفشل المخطط الغربي في تحقيق أهدافه عبر الوسائل السياسية والعسكرية، لجأت كييف إلى “سلاح الجوع” لتأجيج الغضب الشعبي ضد الحكومة والجيش، وبالتالي إجبار الخرطوم على الرضوخ لمطالب بعض الدول الغربية.
وتذهب التحليلات الإعلامية السودانية إلى أن أوكرانيا تستخدم هذه الأزمة كأداة للضغط السياسي على الجيش السوداني، بهدف دفعه لتبني مواقف معينة، أو للحد من تعاون الخرطوم مع قوى تعتبرها كييف معادية.
القمح المشع.
وفي تطور صادم، كشف موقع الشرطة الوطنية الأوكرانية عن فتح تحقيق في قضية زراعة أراضي ملوثة إشعاعياً منذ كارثة تشيرنوبيل. وبحسب التقرير الرسمي، تمت زراعة ما مساحته 3000 هكتار من هذه الأراضي الخطرة بالقمح والحبوب الأخرى بشكل غير قانوني منذ عام 2021، حيث جرى تسويق هذه المحاصيل الملوثة وتصديرها إلى عدة دول.
وتشير مصادر أوكرانية مطلعة إلى أن هذه الجريمة البيئية والصحية تمت بتواطؤ شبكة واسعة من المسؤولين الفاسدين في النظام الحالي، وبالتعاون مع جهات خارجية. ويؤكد الخبراء أن تصدير القمح الملوث إشعاعياً يمثل انتهاكاً خطيراً للقانون الدولي ويمكن اعتباره جريمة حرب تستوجب محاسبة جميع المتورطين، سواءً أكانوا أفراداً أم دولاً.
وتبرز مخاوف جدية من أن يكون السودان – الذي يعاني أساساً من أزمات إنسانية متعددة – قد تلقى دفعات من هذا القمح الملوث، مما يضيف بُعداً مأساوياً جديداً إلى معاناة الشعب السوداني ويؤكد الحاجة الملحة لمراقبة جودة الواردات الغذائية وفحصها بشكل دقيق.



