مقالات

دكتورة ناهد قرناص : عبق الذكريات

الراى السودانى

ما ان يلوح رمضان في الأفق ..الا وتجري عمليات استعداد في كافة البيوت لاستقباله ..نظافة وترتيب ..وادخال واخراج .. ..كانت امي رحمة الله عليها تخرج (عدة رمضان) قبل يوم او اثنين من بداية الشهر ..تنظفها وترتبها ..كانت تحتفظ بها في (كرتونة) اعلى (النملية ) في المطبخ ..اهم اعضاء عدة رمضان اربعة (كواري) كتب على جنباتها (رمضان كريم) ..مع بعض الرسومات الصغيرة نجوم متفرقة وهلال ..اكبر واحدة للحلومر ..التي تصغرها لعصير الليمون ..اما الاخريات واحدة للتمر والثانية للبليلة ..

صوت الملعقة وهو يصطدم بجنبات (الكوريه )..حوالي الساعة الثالثة ظهرا .. يعني ان الوالدة بدأت في اعداد العصائر ..تصفية الحلومر ..وعصر الليمون يدويا ..مما يعني بالضرورة حوجتها الينا انا و اخي عزو (للضواقة ) ..كنا نحمل اكوابا صغيرة ونجلس بالقرب منها ونتحايل بان الكمية كانت صغيرة (ما عرفنا السكر كفاية ولا للا) ..وكانت تضحك من خبثنا وتزيد لنا كمية العصير .. اعتقد انها كانت تعلم بالضرورة كمية السكر ..لكنها كانت تجاري عقولنا الصغيرة فقط لا غير.

بعد ان كبرت ودخلت الجامعة .. قدت حملة شعواء على تلك (الكواري) ..بحجة انها صارت غير مواكبة للتطور ..وصرت كلما ذهبت لصيام رمضان في عطبرة ..ارتب لعمل انقلاب داخلي لاحلال (الجك ) بدلا عن (الكوريه) (يا امي مافي زول هسه بشرب العصير من الكوريه ..دي ذاتها حاجة ما صحية ..الناس بقت تطلع العصائر بالجك ..ومعاها كبابي ..) ..كانت تستمع لحديثي وصوت الملعقة يصطدم بجدار الكوريه ..استعنت بالوالد ..حكيت له كل دفوعاتي ..للتطور ومواكبة العصر ..والاهتمام بالصحة ونقل العدوى ..لكن ذلك لم يجدي نفعا كان رده ان جيرانه ورفقاء البرش (حاج الشيخ الولي ) و(حاج عباس نقد) ..هم واولادهم ..يخرجون العصائر ..في (الكواري) ..من اين اتيت بقصة (الجك) هذه ؟

ضحكت امي حينها ..كانت تعرف ان ابي لن يقف معي ضدها ..هزت رأسها وقالت (يا ناهد انا مش قلت لي نادية اختك قبل كدا ..ما تصاحبي الناس العندهم قروش كتيرة ؟ تتذكري ) هززت رأسي بأن نعم ..رغم ان الذين تحكي عنهم امي كانوا زملاء دراسة ..والمدرسة كانت تجمع الغني والفقير ومتوسط الحال ..لم يكن الامر كما هو الآن ..استطردت قائلة (قلت الكلام دا ..عشان عينكم ما تمشي تشوف حاجة تانية وتجي ما تعجبكم الحالة عندنا ) .. الشغلانة جابت ليها برجوازية وبروليتاريا.

اضطررت ان اسحب دفوعاتي ..لم يكن التوقيت جيدا للتغيير ….فقد كنت في ذلك الوقت امثل الحداثة مقابل الموروث ..تخيلت نفسي بطل قصة دومة ود حامد رائعة الطيب صالح مع الفارق طبعا ..
صارت قضيتي ..(الجك) بدلا عن (الكوريه )..رمضان الذي تلاه ..ذهبت الى السوق واشتريت عدد اربعة (جكوك) ..حملتها معي في قطار المحلي (داخل عطبرة) ..وأول يوم رمضان ..تزينت صينية الحاج قرناص (بالجكوك )..ورضخت امي للأمر ..لكن ابي اتى بعد (شراب المويه) ليقول ان (الجك ) لم يرو عطشه ..اظنه قال ذلك لكي يرضي امي … لكنها استمرت في استخدام (الجك) حتى آخر عمرها ..رحمة الله تغشاهم أجمعين.

كل تلك الذكريات اتت الي دفعة واحدة ..وانا احاول بالامس ترتيب المطبخ لرمضان ..اذا بي أعثر على واحدة من (كواري رمضان كريم ) ..قابعة ضمن الاواني التي اخذتها بعد وفاة الوالدة من منزلها ..كانت وحيدة وسط اواني غريبة عنها ….احسست انها تلومني على كل ما حدث ..هل كان يمكن ايجاد حل آخر ؟ كأن تخرج يوم والجك يوم آخر ؟ ..لا ادري ..كل الذي اعرفه انها فتحت بابا للذكريات صعب علي اغلاقه ..فكان هذا المقال ..رمضان كريم

اضغط هنا للانضمام الى مجموعاتنا في واتساب

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى