مقالات

عثمان ميرغني يكتب.. المسكوت عنه.. سياسيا

حديث المدينة الاثنين 12 أغسطس 2025

المسكوت عنه.. سياسيا..
عثمان ميرغني

من يتابع هدير وسائط التواصل الإجتماعي بالسودان، ويرصد التراشق المثار في سوح المعارك السياسية، يهوله فرط الإنشغال بالمعارك الكلامية في وقت تتسارع خُطى البلاد نحو الحضيض، ويكابد المواطن حياة قاسية تعطلت الأعمال وتصاعدت الأسعار و تضعضت الخدمات الرئيسية مثل التعليم والرعاية الصحية وحتى الأمن، ومع كل ساعة تمضي يزداد الوضع سوءا.

الجدال يتجنب الاصطدام المباشر مع لُب الأسباب الجذرية للأزمة السودانية، فكأنما هناك اتفاقا سريا بالتستر على الفشل السياسي وتعمية البحث عن أصل المشكلة.

الأزمة السياسية السودانية تخضع لعاملين أساسيين:
العامل الأول قُوَى الفعل السياسي Actors، وهم الفاعلون متخذو القرار السياسي من الشخصيات الطبيعية “الساسة”، و المؤسسات الاعتبارية “الأحزاب”.
أما العامل الثاني؛ فهو القواعد الشعبية التي تدعم متخذي القرار بشقيهم الشخصي أو الحزبي.

على مستوى العامل الأول، فإن الدراسة العميقة للمسلك السياسي طوال عهود الدولة السودانية التي نشأت بعد أول انتخابات 1953 إلى اليوم لا يجد الباحث مشقة لإثبات الخلل الكبير في عقلية الحُكم والسياسة مما سمح للأخطاء التاريخية الجسيمة أن تتكرر منذ الاستقلال، وتتراكم بممارسات الساسة والأحزاب مما كَرّس الفشل السياسي في الدولة السودانية.

لكن الأدب السياسي السوداني المنشور يتجنب الإشارة المباشرة إلى أن مصدر هذا الخلل هو المسلك السياسي الذي يقوم على فصل الفعل من القول، لدرجة تجعل التحليل السياسي المبني على ما يقوله الساسة من تصريحات أشبه بمحاولة السير فوق الدخان، فالكلمات لا تعني شيئا أكثر من رنينها، ولا يجدي التعويل على ما يقوله السياسي فغالبا إما هو مجرد قول ملقي على عواهنه أو كلمات يسهل انكار معانيها.

ويمتد فصل الفعل من القول إلى المواثيق التي يدمن الساسة كتابتها، وتظل مجرد مراسيم لا تتجاوز لحظات الاحتفال بتوقيعها وتُنسى تماما، ويتجاوزها الواقع، مثل الوثيقة الدستورية الموقعة في 17 أغسطس 2019 في أجواء احتفالية شهدها حضور إقليمي ودولي فخيم، ولكن بنودها الأساسية ظلت معطلة حتى فجر الإنقلاب عليها في 25 أكتوبر 2021.

في يوم كتبتُ معلقا على حديث أحد الساسة رأيته أمامي يتحدث في شاشة إحدى الفضائيات، فعاتبني لماذا لم اتصل به قبل الكتابة، فقلت له أن الأمر لا يحتاج فقد شاهدته كفاحا أمامي فكان رده مندهشا (وهل تصدق ما نقوله في الإعلام؟).

الممارسة السياسية في السودان تقوم على مبدأ (أعذب الشِعِر أكذبه) فليس مطلوبا من الكلمات والأدبيات المنشورة أكثر من الأثر البلاغي، فيصبح عسيرا التعويل على تفسير ما يقال في الوسط السياسي طالما هو من صنع وادي عبقر و لسان حاله قول الشاعر صديق مدثر :
(لا تقل إني بعيد في الثرى .. فخيال الشعر يرتاد الثريا)..
في كل يوم تشرق فيه الشمس تنهمر على الأثير السياسي السوداني عشرات البيانات من الأحزاب والتحالفات والأفراد من مختلف الإتجاهات السياسية، وحين يغمض الكون أجفانه آخر اليوم تتجمع مئات السطور المنشورة والمبثوثة، ثم تصبح كل هذه الأدبيات الموثقة محض دخان في الهواء لا يعني شيئا، إلا القليل النادر.

هذا المسلك يجعل السياسة في السودان ممارسة “هوائية” بلا أهداف وبلا سيقان وبلا قواعد تنطلق منها مما يحجب تراكم الخبرة وتقوية بنيان الدولة.

الممارسة والمسلك الذي يعاني منه الفاعلون الساسة والمؤسسات الحزبية، مرده الأول ضعف القوام المؤسسي لدى الساسة والأحزاب.

القوام المؤسسي أقصد به السلوك والتفكير المبني على النهج المؤسسي الذي يفصل بين الخاص والعام وبين الشخصي والمؤسسي.

في مجمل الممارسة السياسية السودانية، قدرات السياسي مكرسة للدفاع بشراسة عن مصالحه الشخصية أولا ثم الحزبية ثانيا، بينما تظل المصالح القومية معلقة في الشعارات التي ترفع على الرايات وينفعل بها ويتفاعل معها الشعب.

قدرات الساسة أضعف من أن تسمح لهم تبني مفاهيم تعتمد الأهداف القومية العليا دليلا وهاديا في العمل والقول، ودائما السياسي في حاجة للتغطية على ضعف قدراته باستخدام العامل الثاني الذي أشرت إليه في مقدمة هذا المقال؛ وهو القواعد الشعبية المُغَيّبة بدخان الشعارات فتدعم متخذي القرار من ساسة وأحزاب بلا حساب أو محاسبة.

من المسكوت عنه سياسيا أن الشعب السوداني سهل الانقياد لصناعة “الوَهَم”. ما أيسر تَوَهّم قصصا مختلقة تُبنى عليها حيثيات سرعان ما تجد ما يكفي من الرنين والسند الشعبي الجانح لإستقطاب يترقي لمقام الولاء والتقديس بلا أي جهد من التحديق وتحري الحقائق والموضوعية.

عادة في منتديات الحوار وما أكثرها مع تكاثر المجموعات في وسائط التواصل الإجتماعي، ينقسم الجمهور السوداني بين المع والضد بحيثيات لا تستبطن نظرة موضوعية للحقيقة، أشبه بتشجيع فرق كرة القدم بلون القميص الذي يرتديه اللاعب لا بأدائه، مما يجعل الحوار مهما طال غير قادر على إقناع طرف بالتخلي عن رأيه فهو جدال بيزنطي دائري غير منتج ولا يصل إلى قرار.

ومثل هذا الوضع يشجع متخذي القرار “الساسة والأحزاب” على عدم الإجتهاد في تحري سبل حُكم رشيد منسجم مع منهج تفكير موضوعي، فالتعويل دائما على صناعة سند شعبي يرتبط بولاء استاتيكي، مما يستدعي الإفراط في استخدام خطاب الكراهية والتنابذ بالألقاب لحصد أكبر قدر من استقطاب الجمهور.

يكفي استخدام اسم السياسي وتحويره لصناعة علامة كراهية فينبني رد الفعل الشعبي المعارض أو المساند على حصاد التنابذ بالألقاب دون أية حاجة لترجيح العقلانية و الموضوعية.

المسكوت عنه في الفضاء السياسي السوداني أن الساسة بصفة غالبة لا يَحظون بقدرات شخصية تؤهلهم الإرتقاء إلى درجة “رجال دولة” قادرون على قيادة الدولة وليس مجرد تظاهرة أو حملات الكراهية المتبادلة.

ويساعد على تكريس ضعف قدرات الساسة أنها الوظيفة الوحيدة التي لا تحتاج إلى مؤهلات أو مواصفات، فالقانون الذي يمنع قيادة سيارة صغيرة في الشارع بلا رخصة قيادة ليس فيه ما يمنع قيادة سياسي بلا قدرات لدولة كاملة.

علاج الحالة السودانية يبدأ بالاقرار بالمسكوت عنه، أن قدرات الساسة لا تؤهلهم لإدارة الدولة، وإلى حين فرض اصلاح سياسي بإصدار قوانين ترغم الساسة والأحزاب على الإرتقاء بالمسلك المؤسسي، فمن الحكمة فصل أقدار المواطن عن السياسة، باستحداث تشريعات لا تجعل للمنصب السياسي أيا كان مقامه سلطة التعالي فوق القرار الإداري.
نقلا عن ـصحيفة التيار

اضغط هنا للانضمام الى مجموعاتنا في واتساب

الوليد محمد

الوليد محمد – صحفي يهتم بالشؤون المحلية والإنسانية.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى