فاق عددها ألفي منطقة وشكا سُكَّانها التهميش عشوائيات الخرطوم.. أرض خصبة للجريمة والمجرمين
قدَّرت دراسة حديثة أعدها مهندس مختص في التخطيط العمراني سليمان بابكر، حجم العشوائيات السكنية في العاصمة السودانية الخرطوم وحدها بأكثر من ألفي منطقة، منتشرة في المناطق النائية وأطراف المحليات السبع.
رصدت الدراسة أكثر من (500) قرية ومنطقة سكنية مخططة، لكِّنها مشيَّدة “بالقنا وجوالات الخيش والأقمشة البالية “، وأكثر من 5 آلاف مبنى، مصنوع بمواد محلية متواضعة وأخرى ” رواكيب ” معرَّضة للجرف في موسم السيول والأمطار، وتأتي محلية شرق النيل في المقدِّمة تليها بحري ثم أمبدة، أم درمان، الخرطوم، وكرري.
أصبحت المناطق العشوائية ملاذاً للنازحين والفارين من مناطق الصراع، أو المناطق التي تأثرت بموجات الجفاف، مؤخراً جذبت الكثير من اللاجئين من دولة جنوب السودان وعدد من الجنسيات من دول الجوار الذين تأثروا بالحروب والجفاف والتصحُّر، وأصبحت مرتعاً ووكراً للجريمة، ويعاني قاطنوها من تردي الأوضاع المعيشية واتساع دائرة الفقر.
1
أمونة (45 عاماً)، امرأة متقدمة في السن حياتها شاهدة على ما فعلته العشوائيات بالمواطنين على مر الزمان، كل ما تمتلكه بضعة أمتار أشبه بقبر للموتى في منطقة غرب السلام “الحلة الجديدة ” المعروفة بـ”بجبرونا ” بمحلية أمبدة، تجدها منذ الصباح الباكر تراجع تثبيت أعمدة منزلها الآيلة للسقوط، فقدت “أمونة ” العام الماضي، منزلها الذي جرفته مياه الأمطار، فانتقلت إلى مكان آخر لكنه لم يسعها وأسرتها، فعادت لتبني ركائز المنزل ذو الحوائط المتساقطة مجدداً ليأويها، فهي تقيم في العشوائيات منذ تسعينات القرن الماضي، ولم يحدث لها أن شاهدت يوماً زيارة مسؤول لهذه المناطق التي تواجه تدهوراً صحياً وبيئياً ويتمدَّد فيها الفقر.
2
تمتلك أمونة موقد تقليدي ” كانون ” “مُصدِّي ” وبعض أدوات بيع ” الشاي” لزبائنها، حيث تنصب لها ” درقة ” صغيرة تحميها من حرارة الشمس في شارع الأربعين الفاصل بين مربعي (40 ـ 41) في بداية “جبرونا ” من الناحية الشرقية، لخَّصت معاناتها في مفردة واحدة وهي “العدم”. توفي زوجها تاركاً خلفه سبعة أطفال، تشكو عبئاً أسرياً قاسياً يقع على عاتقها، أفادت “الصيحة ” بأن منطقتها تعاني تدهوراً بيئياً وصحياً وانتشار الجريمة والمخدرات.
لم تكن “جبرونا ” التي اتخذتها الصحيفة أنموذجاً وحدها التي يعاني سكانها، فبحسب الدراسة هناك مناطق عشوائية تضم ما يفوق أربعة آلاف أسرة، داخل منازل بنيانها هش مصنوعة وبعضها بيوت طينية متآكلة ومترهِّلة، جميع قاطنيها بسطاء يعملون برزق اليوم، يبلغ حجم الوفيات فيها نسبة كبيرة جراء تفشي سوء التغذية والسل والإسهالات والغياب الصحي.
3
على الرغم من أن الحروب التي اشتعلت في أطراف السودان بالإضافة للتهجير قادا إلى موجة نزوح مستمرة، فإن القاسم المشترك بين جميع المناطق العشوائية عامل الفقر وانعدام الخدمات والتنمية والتعدي على الأراضي وتفشي الجريمة بأشكالها كافة.
قال مواطنون من مربع مربع (34) غرب أم درمان لـ”الصيحة “، إنهم لم يجدوا أماكن أفضل من العشوائيات ليعيشوا فيها، فالظروف الاقتصادية التي تحيط بهم تعيق استئجار منازل في مكان أفضل، لذلك يتزاحمون في مساحات ضيِّقة تُبنى فيها ” العشش ” يُهدِّد حياتهم الانتشار الواسع “للصوص والنيقرز ” ومتعاطي المخدرات.
4
أفاد طارق عبد القادر، من سكان المربع، إلى وجود فئات من الشباب بالمربع يقومون بتسويق حبوب “الخرشة” علناً وبيعها للأطفال مما دفع بعض الأسر الانتقال إلى أماكن بجانب تدني المستوى التعليمي لأبنائهم، مناشداً السلطات توفير الحماية للأسر المقيمة في العشوائيات وتوفيرالخدمات التي تعينهم.
فيما قال سكان عشوئيات أخرى، يشكِّل انعدام مياه الشرب هاجساً كبيراً جداً، بالإشارة إلى ارتفاع أسعار مياه عربات “الكارو” البالغ سعرها 100 جنيه، “للجركانة “، لافتين إلى أن الأُسر لا تمتلك ما يكفيها يومها، فأغلبهم يعتمد على رزق اليوم، وكشف آخرون عن ظاهرة السرقات النهارية التي زادت بشكل غريب خلال الآونة الأخيرة والتي طالت السرقات عدداً من “عشش ورواكيب ” السكان البسطاء.
5
قال المهندس سليمان، مشكلة العشوائيات ليست في السكن غير الملائم وإنما هي بيئات مثالية وأرض خصبة للجريمة ومخبأ للمجرمين بالتفاعل مع انتشار الفقر والمرض وغيرها، مضيفاً: يعيش سكانها الحرمان من الخدمات كافة، ويُدمِّر الخريف منازلهم كل عام ويبقيهم في العراء، مشيراً إلى الأضرار التي تُخلَّفها السيول التي تستقر عند أراضيهم مكوِّنة مستنقعات يتوالد فيها الذباب والبعوض والضفادع، فتتحوَّل إلى بؤر وبرك للأوبئة.
ولفت إلى أن خطر العشوائيات يمتد إلى المربعات السكنية الأخرى، عدد لا يستهان به من المباني المهجورة، وهي مهدِّد أمني واقتصادي واجتماعي، وناشد المسؤولين بالسعي لتوفير الخدمات الأساسية التي تضمن استقرار المواطن، إلى جانب التخطيط وتوزيع السكن للمستحقين بعدالة.