التصفيات النهائية..
عندما تنقسم البلاد إلى مجموعات سياسية “صِفّرية”، كل مجموعة تجتهد في إقصاء الأخرى وتعظيم المكاسب الحزبية فوق القومية.. فإن النتيجة أن تصبح الدولة مجرد “دوري” ليس لكرة القدم بل للملاكمة وربما المصارعة اليونانية القديمة التي تنتهي بموت أحد المتصارعين.
لو أسفر المشهد السياسي السوداني غير ما هو الحال الآن لجاز أن يسجل تحت عنوان “المعجزة”، فالمعطيات الأولى التي بدأت تطل منذ أول يوم بعد انتصار الثورة كانت تنبيء بالمآلات.. في أول اجتماع بين وفد قوى الحرية والتغيير والمجلس العسكري مباشرة بعد سقوط النظام البائد، صدرت بيانات تلاوم بين بعض مكونات الحرية والتغيير لأن بعضهم فشل في الوصول لمقر وزارة الدفاع لحضور الاجتماع لسوء تفاهم حول مكان تجمع وفد الحرية والتغيير قبل تحركه إلى مقر الاجتماع.. رغم أنها تبدو ملاحظات صغيرة لكنها تكشف من ورائها عواقب جسيمة.. تكشف كيف تدار الشراكة حتى قبل أن تبدأ.
تحول العمل العام الحكومي والسياسي إلى مضمار سباق حزبي مرير وإقصاء متبادل بين قوى الثورة فضيّق شارع الثورة وأرغم كثيراً من المكونات الفاعلة في الحراك على الجلوس في الرصيف وإعمال مبدأ “النشوف آخرتا”..
و مع ذلك؛ دعوني أقول أن المشهد الآن أكثر عافية، لأن “اللعب على المكشوف” من كل أركان السلطة و من المكونين المدني والعسكري.. و الشعب الذي كان يتوهم حالة “الانسجام والتناغم” كما قيل له ، أدرك أخيراً أنها فترة حضانة فيروس حالما يطفر إلى السطح، ليكشف إلى أي مدى تنحدر المصالح القومية إلى أسفل سافلين الأوليات..
أمس كتب الدكتور الواثق البرير الأمين العام لحزب الأمة القومي تغريدة في الفيسبوك استخدم فيها خمس مرات كلمة “حل”.. إبتداء من حل مجلس السيادة ومروراً بمجلس الوزراء إلى حل الولاة والمفوضيات .. ورغم أنه اعتبرها خواطر شخصية لا تعبر عن المؤسسة التي يمثلها لكنها في النهاية تكشف “الاحباط” ولم أقل “اليأس” الذي وصله الحال.. فالذين في يدهم القلم وهم جزء من صناعة القرار السياسي في البلاد باتوا ينادون بتصفير العداد والتزام “الحل في الحل” ليس ابتغاء وصفة بديلة بل من باب “عسى ولعل” .. مجرد تجريب لخط جديد عسى ولعل تنجح! وأن لم تنجح فليس من خاسر سوى الشعب، فالساسة يكسبون في كل الأحوال.
مثل هذا الحال لن يقود البلاد إلى وضع مستقر ولو استمرت الفترة الانتقالية مائة عام..