لا يمكن تجاهل حقيقة ان الشعب السوداني قام بثورة في الماضي في عام ١٨٨٥، هذه الثورة وحدت الشعب وحشدته بالقيم المطلوبة من أجل التحرر والاستقلال، وكانت ثورة اقرب الى المعجزة حين استطاع شاب في الثلاثينيات من عمره أن يوحد شعبا مصابا بكل امراض المجتمع المتخلف، من فقر وجهل ومرض وعصبية قبلية وتعدد طائفي، ثم كانت المعجزة الثانية حين استطاعت جيوش هذه الثورة ضعيفة التدريب، فقيرة التسليح من هزيمة عدد من الجيوش المنظمة والمسلحة بطريقة حديثة، واكتسحتها حتى وصلت الخرطوم وانتزعتها من بين انياب غردون وأعلنت السودان حرا مستقلا، وكان هذا هو الاستقلال الأول لدولة السودان بحدودها الحالية، وكل ذلك في اقل من خمس سنوات، وهي فترة مقارنة بواقع البلاد وقوة المستعمر فترة قصيرة جدا.منذ ذلك التاريخ القديم، تشرب الشعب السوداني روح الثورة وأصبح شعبا ثائرا بالفطره، بل أصبح أستاذ الشعوب في الثورات، منذ الاستقلال الثاني في عام ١٩٥٦ ثار الشعب السوداني ثلاث ثورات شعبية كاسحة اقتلع بها ثلاث أنظمة دكتاتورية، فكان بذلك الشعب العربي والأفريقي الوحيد وربما في العالم أجمع الذي يسقط ثلاث أنظمة دكتاتورية في اقل من نصف قرن، وهي معجزة تشبه معجزة اجدادنا في الاستقلال الأول.بهذه المقدمة يثبت بما لا يدع مجالا للشك أننا شعب يجيد الثورة، ولكن هل نحن شعب يجيد الدولة؟ هذا السؤال مهم جدا، لأن النجاح في الثورة والفشل في بناء الدولة يعني عدم الاستفادة من الثورة وضياعها هباءا منثورا، وتحولها إلى محض تاريخ محفز وباعث على الفخر والكرامة، وهل يتحول التاريخ المحفز إلى خبز ودواء لسكان الحاضر؟ هل تتحول الكرامة إلى مدارس ومستشفيات وطرق وكهرباء؟لن نتردد كثيرا قبل أن نجيب بأننا للاسف شعبا لا يجيد الدولة؟ ناجحين في الثورات، فاشلين في الدولة، نتفق ونتوحد بطريقة غريبة واشبه بالاعجاز في مرحلة الثورة، وما ان ندلف إلى الدولة حتى نتمزق ونتفرق وننسى تلك الوحدة الأولى، وننسى الثورة وتضحياتها وعملها المشترك، ونغرق في خلافات عبثية، وصراعات بائسة، فيتحول مشروع بناء الدولة إلى مشروع هدم، ومشروع إصلاح الواقع السياسي الى تفكيك الواقع السياسي بالصراع.ليس هذا اكتشاف مدهش، فالجميع حين ينظر إلى ثورات السودان ويرى ما بعدها يستخلص ذلك، وفي كل مرة نتفق في فترة المعارضة ان يكون السودان مختلفا حين تنتصر الثورة، ان يتحول إلى بلد للاخاء والسلام، ثم لا نفعل شيئا، ننسى كل ذلك ونغرق في الخصام و(الحفر) والكيد لبعضنا البعض ومن أجل ماذا؟ لا شيء، مجرد تعصب اعمى ووعي كاذب.بعد ثورة ديسمبر، نرى بعض التحول في الأجيال الجديدة، ونرى الإصرار على فترة انتقالية طويلة من أجل معالجة أسباب الصراع والفشل في بناء الدولة كمقاربة جديدة لمعالجة الخلل بعد تجربتين لفترات انتقالية قصيرة، هل ستنجح الكتلة السياسية هذه المرة؟ هل تستطيع الأجيال الجديدة ان تحدث الاختراق الذي يوقف الحلقة الجهنمية ويساعد التركيبة الاجتماعية السودانية على التحول من تركيبة ثورية إلى تركيبة قابلة لتطوير وبناء الدولة؟ هذا هو السؤال المهم.