للحقيقة لسان
رحمة عبد المنعم
(حكومة التعساء)
في التاريخ السوداني محطات كثيرة للحزن، لكن قلّما اجتمعت الخيانة والخيبة في مشهد واحد كما اجتمعت في ما سُمِّي زوراً بـ”حكومة تأسيس”، التي أُعلن عنها من منفى جغرافي ومعنوي، بلا أرض ولا سيادة، ولا حتى شرعية عابرة، حكومةٌ لا تقيم على أرض الوطن، ولا تستند إلى إرادة شعب، بل إلى توصية معلّبة خرجت من أحد مكاتب التخطيط في أبوظبي.
هذه “الحكومة” التي نصّبت محمد حمدان دقلو، القائد المتمرد والمتورط في جرائم ضد الإنسانية، رئيساً، وعبد العزيز الحلو، الرجل الذي احترف الخطاب الانفصالي، نائباً له، لا تملك اليوم سوى وهم السلطة في رقعة جغرافية ممزقة من دارفور وأجزاء من كردفان، أما الخرطوم، والجزيرة، وسنار، فقد لفظت المليشيا وطردتها شر طردة، فلم يبق لها فيها موضع قدم، ولا مأوى حتى للخيال السياسي.
لم تكن التشكيلة إلا إعادة إحياء لمقولة شعبية تصلح عنواناً لهذا العبث: “اتلمّ التعيس على خايب الرجاء”، فها هو علاء الدين نقد، الذي أمضى الحرب يبيعنا حياداً من ورق، يضع يده فوق يد حميدتي، قاتل الوطن، ويرقص سياسياً على أنقاض الخرطوم، وها هو برمة ناصر، رمز التردّد المزمن، يعانق مشروعاً جاء على ظهر الدبابات المليشياوية، وإبراهيم الميرغني، الوريث الحائر، وجد لنفسه مقعداً على سفينة تغرق حتى قبل أن تُبحر، والبقية،محمد يوسف أحمد المصطفى، مبروك مبارك سليم، والهادي إدريس… ليسوا رجال دولة، ولا رموز مرحلة، بل مجرد انتهازيين وأرزقية يتنقّلون بين الولاءات بحثاً عن سلطة عابرة أو مكسب شخصي، لا يحملون مشروعاً، ولا يمتلكون وزناً سياسياً، سوى ما تمنحه لهم المليشيا التي استأجرت مواقفهم، ودفعت بهم إلى واجهة حكومة لا قيمة لها، ولا اعتراف ينتظرها.
هي حكومة “التعساء”، جمعت السياسي الأرزقي، والتكنوقراطي الحالم، والمتمرد المسلّح، في زفة بلا شعب، وبلا دستور، وبلا أرض، وأتت كما رُسم لها على طاولة المصالح الإماراتية، حيث لا مكان للمصلحة السودانية، بل حسابات مناجم الذهب، وموانئ البحر الأحمر، والخرائط التي تُرسم بالحبر السري.
أين ستُقام هذه الحكومة؟ في نيالا المنهكة؟ في كاودا المعزولة؟ في قاعدة عسكرية؟ أم في فندق خمس نجوم برعاية ضيوفهم في الخارج؟ ما سُمّي “رئاسة الوزراء” بقيادة محمد الحسن التعايشي، ليس إلا واجهة مدنية لسلطة لا تعرف من المدنية سوى ديكورها.
العواصم الحقيقية، لا تلك التي تُدير اللعبة من الخلف، قالت كلمتها من قبل مصر، وتركيا، وقطر، والسعودية، والاتحاد الأفريقي، والأمم المتحدة، جميعهم رفضوا مبدأ “الحكومة الموازية”، وحذّروا من مآلاتها، فالمجتمع الدولي، مهما اختلفت رؤاه، لا يعترف بمن جاء على ظهر السلاح، ولا بمن انقلب على الشرعية، ولا بمن يحكم الخوف بدلًا عن القانون.
ما جرى ليس أكثر من إعلان سياسي فاقد للمعنى، لا يغيّر من الواقع شيئاً، لا يبني دولة، ولا يعيد هيبة، ولا يُصلح ما أفسدته الحرب، إنها حكومة منفى، لا يسمعها أحد في الميدان، ولا يثق بها أحد في الإقليم، ولا يُعوّل عليها أحد في الداخل..هكذا تُكتب نهايات المشاريع المرتجلة ،من لا يعرف قدر الوطن، لا يصنع له حكومة،ومن يضع يده في يد من قتل شعبه، فلن يكتب صفحة في دفتر المستقبل، بل سطراً في سجل الخزي.