“الحقيقة النقية البسيطة نادراً ما تكون نقية، ويستحيل أن تكون بسيطة”.. أوسكار وايلد..!
جُل مصائب هذا السودان مَرَدُّهَا إلى عيبٍ أصيل في تكوين الشخصية السودانية، يُمكن تلخيصه في كلمة واحدة هي “جداً”. نحن نَكره جداً ونُحب جداً، نَظلم جداً ونتَظلَّم جداً، نَقمع جداً ونثُور جداً، نهتَم جداً ونُهمل جداً. وما بين طرفي النقيض أمورٌ مشتبهات وحقائقَ مختبئات، ومفاهيم مُتدرِّجة الألوان، وأرضيات ليست سوداء وليست بيضاء تصلح لتأسيس المشتركات، بلا إفراطٍ في رفض أو تفريطٍ بقَبول، لكننا مع ذلك نأبى مبدأ التكامل وننفر من خيارات التجريب، ونلوذ بالشك وننتهج العناد، جداً، جداً..!
“ألكسندر دوما” يقول إن “كل التعميمات خطيرة، بما في ذلك هذا التعميم نفسه”، وهذا يعني ببساطة أن لا حقائق مطلقة لكل الأشياء، ولا أحكام نهائية على كل البشر، ولا تصنيفات قاطعة لكل الأفعال. حتى الحياة الآخرة فيها جنة ونار، وفيها منطقة برزخية يساق إليها أصحاب الأعراف. وهذا يعني أن الحكمة – في هذا الشأن – رَبانيَّة، وأن العدالة متفاوتة، وربما لهذا قال “جمال الدين الأفغاني” إن أقرب موارد العدل هو “القياس على النفس”..!
فالطبيب الذي يصف حميةً قاسية جداً لمريضٍ مُسنٍ جداً أنهكه المرض واستنفذ رصيده من الصبر – حتى يتمكن من فقدان ما يربو على العشرين كيلو جراماً، بحجة أن تتحسّن صحته – يُعجِّل من حيث لا يدري بنتيجةٍ فاشلة لوصفة مثالية. وقديماً قال “ديكارت” إن الأرقام المثالية “نادرة مثل الرجال المثاليين”..!
والزوج الذي يتفنّن في إساءة استخدام قوامته على امرأةٍ كسيرة، لا تملك إلا أن تُذعن – لأنه يطعمها وأولادها ويكسوهم ويوفر لهم سقفاً آمناً – ينتهي إلى شيخٍ مسن “مجدوع” في ركن البيت، يدفع متأخراً فواتير جفافه العاطفي..!
أما عن شطط الحكومات واستبداد الحاكمين جداً، جداً، فللكاتب المصري الراحل “أحمد خالد توفيق”، عبارة بديعة تقول إن “هنالك فلسفة مُمتازة يجب أن يتذكرها الطغاة، يجب أن تُبقي لضحاياك شيئاً ما يخافون من فقدانه، لا تكن غبياً وتأخذ منهم كل شيء، حتى لا يتحولون إلى مرحلة عدم الخوف من أيّ شيء. عندما يُقيّدون سجيناً ما ويجردونهُ من ثيابه ثم يصعقونه بالكهرباء، فإنهم بذلك يكسبون خصماً عنيداً شرساً، صارت حياته كُلها تنقسم إلى ما بعد الكهرباء وما قبلها. لقد كانت حياته كلها خوفاً من الكهرباء، أما بعدها فهو لم يعد يَخاف شَيئاً”..!
وأما عن الشباب الثائرين جداً، جداً، فالعصبية الجيلية – التي تَعشق وقار الشيب وتُقدِّس حكمة الشيوخ المقترنة بالأمراض المزمنة – لم تترك لهم شيئاً يخافونه أو يخافون عليه. فمعظم أيقونات السياسة قللت من شأنهم، وأهملت مستقبلهم وسفَّهت أحلامهم، واستهانت بمقدراتهم، واستهترت بمكامن القوة فيهم. ثم أشاحت بوجهها عن احتجاجاتهم، وأعرضت عن مواقفهم ووقفاتهم الرامية إلى سِعَة التغيير..!
والحقيقة أنّ الدعوة إلى التأمُّل في رحابة الاحتمال واتساع المسافة الفاصلة بين مُنتهى “السّيولة” ومُنتهى “اليَباس” هي مربط فرس هذا المَقال..!