مقالات

الدكتور ضيو مطوك ديينق وول يكتب:مآلات الصراع العسكري-العسكري وفرص الانتقال المدني الديمقراطي في السودان

الدكتور ضيو مطوك ديينق وول يكتب:

مآلات الصراع العسكري-العسكري وفرص الانتقال المدني الديمقراطي في السودان ..

لا ينكر أحد دور القوات النظامية في الإطاحة بنظام عمر البشير وهذه ليست المرة الأولي التي يلجأ فيها الشعب للقوات المسلحة السودانية من أجل تغيير الأنظمة السياسية في السودان، حيث كان هناك أحداث مماثلة في أكتوبر 1964 وأبريل 1985 وأخيرا أبريل 2019، ويلاحظ في كلتا الحالتين الأولتين أن الانتقال يقوده الجيش مع وجود حكومة مدنية تعمل من أجل تجهيز المسرح السياسي للأحزاب بغرض التنافس في الانتخابات العامة قبل نهاية الفترة الانتقالية، وهي مدة غالبا ما تكون فترتها عامين علي أكثر تقدير.
ثورة ديسمبر المجيدة سلكت نفس الاتجاه من حيث أسلوب ووسائل الإطاحة بحكومة البشير، ولكن تم تجاهل حقيقة أن الجيش هو صمام الأمان في تغيير الأنظمة في السودان، وهو دائما ما يستجيب للإرادة الشعبية بكل إخلاص وصدق وأمانة، ويقوم بتسليم السلطة بعد إجراء انتخابات عامة واختيار الشعب لقياداته وخياراته السياسية.
الكل يعرف حقيقة أن شباب الثورة ذهبوا إلي القيادة العامة وطلبوا من الجيش الحماية والمساعدة للإطاحة بنظام البشير، وكعادتها استجابت الموسسة العسكرية لهذا الطلب وذهب البشير إلي المعتقل. كان الاعتقاد أن الأمر سيكون مثل سابقاته في عامي 1964 و 1985 لكن أتى الأمر مختلفا هذه المرة حيث استمرت الاحتجاجات ضد الفريق أول عوض بن عوف وأطيح به بعد 48 ساعة وتسلم الفريق أول عبد الفتاح البرهان مقاليد السلطة ولم تقف الاحتجاجات الشعبية حتي تم التوقيع علي الوثيقة الدستورية التي قررت تقاسم السلطة بين المكونين العسكري والمدني في الفترة الانتقالية مما خلق تجاذبا وتشاكسا في السلطة أدى إلي الإطاحة بالدكتور عبدالله حمدوك رئيس الوزراء المدني وتراجع مشروع الانتقال المدني الديمقراطي وأهدرت مكتسبات الثورة الهادفة إلي إحلال السلام الشامل في ربوع البلاد وإجراء إصلاحات هيكلية في الدولة وتعافي اقتصادي واجتماعي والعودة بالسودان إلي الأسرة الدولية، كل هذه الآمال والطموحات تلاشت و بدأ المجتمع الدولي يلوح بالعقوبات الاقتصادية وتحجم دور السودان الدولي والإقليمي مرة حيث جمدت عضويته في الاتحاد الإفريقي وأخرى بالعمل معه بنظام المبعوثين الدوليين الذين يأتون إلي الخرطوم بغرض كتابة التقارير التي تصلح أو تفسد العلاقة بين السودان والمنظمة الدولية حسب فعالية اللوبيات التي تعمل لصالح هذه البلدان المهيمنة وتمرير أجنداتها الرامية لرضوخ الدول الضعيفة وعدم السماح لها بالنهوض وبقائها ضمن حلف الغوث التي تحتاج لإعانات ودعومات إنسانية يتم إدارتها عبر محاور استخبارية داخل الإقليم
الأزمة السياسية السودانية الحالية بدات مع التوقيع علي الوثيقة الدستورية في يوليو 2019.
هذه الوثيقة التي صنعت من قبل الحكومة الإثيوبية بالتضامن مع الاتحاد الإفريقي أخرجت الانتقال السياسي الديمقراطي من مساره المعهود، وحاولت ابتكار حلول جديد بعيدة عن الواقع والإرث السياسي السوداني الذي ثبت نجاحه في التعامل مع الحالات السياسية المماثلة- وخلافا لما يقرره العلم أنه يجب تطبيق ما هو مجرب أصلا طالما كان ناجحا، أتت تلك الوثيقة. ويعتبر هذا الخروج عن المالوف والبحث عن الخيارات الجديدة غير المجربة هو محاولة لجعل الخرطوم حقلا لتجارب سياسية ربما تطبق في بلدان العالم الثالث خاصة مناطق النزاعات المسلحة والسياسية.
فكرة تقسيم الفترة الانتقالية إلي نصفين بحيث يقود الجيش النصف الأول والنصف الآخر للمدنيين كان خطأ فادحا من قبل الوساطة الإثيوبية ودليل علي عدم الدراية بطبيعة الأزمات السياسية السودانية ودور الموسسة العسكرية السودانية فيها وخاصة إذا عرفت بأن الجيش السوداني لا يتدخل في مثل هذه الأمور إلا بطلب من المدنيين أنفسهم ابتدءا” من إبراهيم عبود ومرورا بجعفر نميري وعبدالرحمن سوار الدهب وعمر البشير وحتي الرئيس الحالي لمجلس السيادة عبد الفتاح البرهان كلهم استلموا مقاليد السلطة بإيحاء واضح من الأحزاب السياسية باتجاهاتها المختلفة من أقصي اليمين إلي أقصي الشمال اشتراكية كانت أم طائفية بلا استثناء. ويشهد التاريخ أن الجيش كان أمينا في إدارة الفترات الانتقالية وتسليم السلطة إلى المدنيين في مواعيدها المضروبة والعودة إلي ثكناتهم لحين إشارة أخرى.
الوساطة الإثيوبية التي أفضت إلي الوثيقة الدستورية تجاهلت تماما هذا الأمر مما تسبب في إغراق البلاد في أزمات سياسية يصعب الخروج منها في القريب العاجل وهي نفس المعضلة التي ولدت الصراع العسكري-المدني المتسبب في استيلاء العسكريين على السلطة في أكتوبر 2021 ويلاحظ أن الاتفاق الإطاري السياسي الموقع من قبل بعض قوى الثورة في ديسيمبر ٢٠٢٢ يكرر هذا الخطأ الفادح مما يضعف فرص الانتقال المدني الديموقراطي.
الذي يدور في الخرطوم هذه الأيام بين الجيش والدعم السريع من مساجلات وحرب كلامية ليس بصراع عسكري- عسكري بل هو صراع عسكري- مدني من الدرجة الأولي. فقوى الثورة التي تتكون من المدنيين باتجاهاتهم المختلفة والعسكريين بفصائلهم من الجيش والدعم السريع والشرطة والمخابرات العامة لم يحسموا خيارات الانتقال المدني الديمقراطي من حيث القيادة والإصلاح الأمني في الفترة الانتقالية مما جعل مناورات الكل في دائرته محاولا إيجاد حل لاستيعاب العسكريين في المرحلة المقبلة غير مقبولة لأن ما يسمي بمجلس الأمن والدفاع الذي يفترض أن يستوعبهم ليس موسسة منفصلة عن الإدارة المدنية فهذا المجلس سيفضي إشرافيا” لرئيس الورزاء المدني وهو أمر لا يتماشي ورغبة قيادة الجيش في مجلس السيادي الحالي.
الأمر الثاني هو الفهم الدستوري لمجلس الأمن والدفاع، هذا المجلس هو جهة فنية مناطة بتنفيذ سياسات الأمن والدفاع وستحتضن فقط شخصيات في سلم قيادة الأجهزة الأمنية والعسكرية وليس ضباطا خرجوا من هرم القيادة ودخلوا السياسة ولذلك فرص دخول الفريق أول البرهان ورفقائه هذا المجلس أمر غير وارد عند المدنيين.
الجيش حينما وقع علي الاتفاق الإطاري السياسي كان يراهن علي عدم التوافق والإجماع لقوى الثورة وشهدنا ذلك من خلال الانقسامات العميقة حول الاتفاق الإطاري السياسي وتصريحات قادة الجيش بضرورة وجود إجماع وطني حتي يتثني قيام الحكومة المدنية وأن
مطالبة المدنيين للعسكريين بالذهاب إلي ثكناتهم جاء رد فعله ملتهبا من قبل العسكريين حيث قال الفريق أول البرهان بان العسكر إلي الثكنات والمدنيين إلي الانتخابات وهذا يدل علي أن ليس هناك تسليم للسلطة لمجموعة لم تحظ بتكليف شعبي وأي شخص يريد السلطة يذهب لصناديق الاقتراع أولا وهذا بدهي حتي لطلاب السنة الأولى سياسة فالأنظمة الديمقراطية في أرجاء المعمورة تصل السلطة من خلال الانتخابات وليس الانتفاضات فيجب أن نعلم بأن الأزمة السياسية الراهنة ليست عسكرية- عكسرية بل هي عسكرية- مدنية من الطراز الأول.
تصوير هذا الصراع بأنه بين الجيش والدعم السريع حول استيعاب قوات الأخير في الجيش ليس دقيقا، يجب أن ننظر له كصراع تكتيكي الهدف منه إجهاض الاتفاق الإطاري السياسي الذي لا يحظى بإجماع قوى الثورة، فالجيش والدعم السريع اتفقا على إجراء الدمج في اتفاق جوبا لسلام السودان وهو عملية يفترض أن تنتهي في فترة مدتها 39 شهرا هذه اتفاقية مقبولة من قبل جميع الأطراف الأمنية والعسكرية من الجيش والدعم السريع وحركات الكفاح المسلح الموقعة عليها، وكل المنظومة الأمنية التي كانت شكلت حضورا كثيفا أثناء مفاوضات السلام بجوبا علما بأن المفاوضات كان يقودها الفريق أول محمد حمدان دقلو بوجود شخصيات نافذة في الجيش فتصوير هذا الأمر بأنه سبب في الاختلاف القائم الآن بين الجيش والدعم السريع ليس صحيحا ولذلك نقول إن الصراع أصلا عسكري- مدني حول القيادة، خاصة مركز الجيش في العملية السياسية في الفترة الانتقالية، إذا أخذنا هذه الاعتبارات في الحسبان سنجد حلولا مرضية للجميع تدفع بعجلة الانتقال المدني الديمقراطي، أي تأخير في حسم هذه القضايا سيأدي إلي انهيار الدولة السودانية.
يجب أن نخاطب مخاوف العسكريين والمدنيين ونبحث عن حلول وسطية لا تقصي أحدا وتضع السودان في المقدمة خاصة تلك التجارب الناجحة مثل تجربتي 1964 و 1985 اللتان قادتا الانتقال إلي بر الأمان وتسليم السلطة إلى المدنيين عبر انتخابات حرة ونزيهة، ونتذكر بأن السودان ليس محتاجا لتجارب الآخريين بل هو في مكان تصدير تجاربه إلي الآخريين وليس العكس.

اضغط هنا للانضمام الى مجموعاتنا في واتساب

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى