حديث المدينة الأحد 24 أغسطس 2025
سكان ولاية الخرطوم حوالي 9 مليون.. حوالي ربع سكان السودان. واحد من كل أربعة سودانيين يستوطن الخرطوم.. و بحساب الوظائف الحكومية وفي القطاع الخاص، والأعمال الحرة.. فإن نصف هذا العدد عطالة حقيقية لا يعملون إطلاقا أو بطالة مقنعة يمارسون أعمالا هامشية، مثل السمسرة. يصبح السؤال المنطقي؛ لماذا نفترض أن كل هؤلاء يجب أن يعودوا إلى ولاية الخرطوم؟
بعد اندلاع حرب 15 أبريل 2023، نزح الملايين من الخرطوم إلى مختلف مدن السودان، حتى اكتظت بهم. بورتسودان نالت نصيب الأسد، تليها عطبرة، ثم بقية المدن في ولايات القضارف و كسلا ونهر النيل والشمالية، وقليل في النيل الأبيض.
عدد مقدر من النازحين اختاروا أن يعودوا إلى الجذور.. المناطق الأصلية التي انحدروا منها.. بعض الأجيال ولدت وعاشت وترعرعت في الولايات ثم شاءت ظروف العمل أن يستوطنوا الخرطوم.. و بعضهم أنجب أجيالا جديدة لم يروا بأعينهم المناطق التي تنحدر منها جذورهم.
مثلا ؛ أسرة من مروي.. الجدود والآباء ولدوا وعاشوا في مروي و ربما لم يخرجوا منها قط.. ثم جاء جيل من أصلابهم تطلبت ظروف العمل أو ربما الدراسة الجامعية أن يسكنوا في الخرطوم.. و استقروا بها.. ثم انجبوا جيلا لاحقا ولد وترعرع في الخرطوم.. لم ير مروي اطلاقا.. إلى أن جاءت محنة الحرب، فأعطت منحة العودة للجذور.. سافروا نازحين إلى مروي واستقروا فيها أكثر من عامين حتى الآن.
لماذا يعودون إلى الخرطوم؟
الإجابة ،لأن ممتلكاتهم وبيوتهم في الخرطوم.. و أعمالهم أيضا فيها.
هذا مفهوم ومقبول.. لكن إذا كانت هذه الأسرة لا تملك أساسا بيتا في الخرطوم، ظلت مقيمة بالإيجار.. وأصلا لا ترتبط بعمل إلا المهن الهامشية غير المنتجة.. لماذا تعود إلى الخرطوم حيث لا بيت ولا عمل..
نفترض أن من ينطبق عليهم هذا التوصيف لا يتعدى عددهم خمسة آلاف فقط؛ الذين ينحدرون من الولاية الشمالية لكن إقامتهم في الخرطوم بلا جدوى اقتصادية.
لماذا يعودون إلى الخرطوم؟
بالضرورة الإجابة معلومة للجميع، لأنهم أيضا لا يملكون بيتا ولا عملا في الشمالية.. علاوة على فقر الخدمات خاصة التعليم والصحة.. وضيق فرص العمل .. فمهما كان فالخرطوم خيار أفضل.
من هنا يجدر أن يبدأ خيط تفكيك واحدة من أكبر معضلات السودان.. سوء توزيع الكتلة السكانية.
السودانيون ينطبق عليه قول عادل امام في مسرحية “شاهد ما شافش حاجة” عندما سأل حاجب المحكمة عن سكنه فقال له، انه يعيش مع زوجته وأولاده السبعة في غرفة واحدة فسأله عادل إمام بمنتهى البراءة (سايبين الشقة كلها فاضية وقاعدين في أوضة واحدة؟)..
السودانيون يتركون وطن مترامي الأطراف خاليا من السكان يتكدسون في العاصمة.
تبدأ الخطة الاستراتيجية في تفكيك هذه المعضلة من الإجابة على السؤال “كيف نخلق البيئة الحضرية الجاذبة للسكان في كل مناطق السودان؟”
في الماضي توفرت هذه البيئة في مشروع الجزيرة فاختار مئات الآلاف أن يهاجروا من مختلف أنحاء السودان فينجبوا أجيالا نالت مواطنة الجزيرة.. وكذلك كسلا التي كانت في يوم من الأيام قبلة السودانيين من كل الأعراق.. و بورتسودان.. والتي جذبت حتى جنسيات أخرى من خارج السودان ..وعطبرة والأبيض.. والفاشر ونيالا..
تصميم خطة استراتيجية لتأهيل مدن قديمة مثل مروي .. واستحداث مدن جديدة في الفراغات الجغرافية مثل إقليم الفشقة.. لجذب وإعادة توزيع الكتلة السكانية .
الأمر له مزايا أخرى تتجاوز الأبعاد الاجتماعية والاقتصادية.. فهو يعزز الأمن القومي السوداني.. واحد من أخطر المهددات التي تواجه السودان هو الفراغات الجغرافية الهائلة.. بعض الطرق تمتد لآلاف الكيلومترات في مناطق شاسعة وفيرة الخيرات لكنها خالية تماما من الحياة البشرية.
نعود للسؤال.. لماذا تفترض الحكومة أن جميع سكان ولاية الخرطوم يجب أن يعودوا اليها؟
نقلا عن التيار