الفريق أول عبد الفتاح عبد الرحمن البرهان، رئيس مجلس السيادة، القائد العام، رجلٌ مرتبٌ وعميقٌ، وقليل التصريحات، سهل المُعاملة، وتشعر أنت بين يديه أنك أمام رجل من عامة الناس، وهو جنديٌّ وقائدٌ مقاتلٌ يعرفه من تعامل معه ومن يقودوهم.
آلت إليه أمور الحكم بعد أبريل ٢٠١٩م، وصار الرجل الأول في السودان ببزّة عسكرية في دولة تتقاذفها الأمواج من كُلِّ جانبٍ، وخاصّةً التدخُّل الأجنبي من سفارات الدول الغربية أمريكا ومن شايعها حاجة وسيطرة في مواردها وإمكانَاتها وموقعها، في ظل وجود أبناء للسودان تسربلوا وتغطوا بثوب الخارج حتى أصابهم العرق، وعرفوا الدولار والاسترليني واليورو الحرام حتى صاروا يتنفّسون هواء الخارج، ثُمّ داخل مقسمٌ ومشتتٌ، كثرت فيه العنصرية والقبلية والتجييش، ثم أحزاب سياسية هرمت وحل الأبناء والأحفاد محل الآباء والأجداد، وصرنا تحت رحمة الجيل الرابع من أبناء السودان بعد الاستقلال، وكثر العلم والمعرفة، وصار هؤلاء الأحفاد والأبناء خاوي الوفاض، فهم كالعير في البيداء يقتلها الظمأ والماء فوق ظُهُورها محمولٌ، يتصارعون في الوراثة بدون روِّي وهُم في المحطة الأولى والأتباع وصلوا الثريا، ومازالوا في محطة التاريخ، ثم آخرون انتهت الفكرة في المنبع والمنبت، لأنها تخطفها الطير السياسي والعلمي والمعرفي والتقني الرقمي، فهي أفكار سادت ثم بادت.
جاء البرهان الى الحكم في ظل كل هذه الظروف وهو يحاول أن يوازن بين القديم والحديث، وبين الداخل والخارج، وبين ما هو عصريٌّ وتقليديٌّ، وبين وطني بني السودان وعملائه، وبين رغبات الجيش والأجهزة الأمنية، وبين حركات مُسلّحة ما زالت لم تسوِ أمورها، وبين ساسة وطوائف، وبين قبائل وعشائر، وبين لجان ومؤسسات شرعية وغير شرعية، وبين دولة جيرانها بعضهم طامع، وآخر خائف، وثالث عامل لصالح آخرين، وبين دول عربية تُريد أن يكون لها موطئ قدم، وبين قوى أجنبية تريد أن تُغيِّر شكل وسلوك وقيم ودين أهل السودان، وبعثة أممية على رأسها سفير يعمل لصالح الغرب والترويكا وهو رجل مخابرات أكثر منه دبلوماسياً وهو رجلٌ سياسيٌّ اكثر منه سفيراً، ولديه برنامج علماني ليبرالي يعمل على تنفيذه، ويود أن يُمكِّن بعض القوى السياسية في الحكم ليسيطر على موارد السودان.
في ظل كل هذه الظروف، يعمل البرهان وكذلك لديه أجهزة يستعين بها، أهمها جهاز الاستخبارات العسكرية وجهاز الأمن والمخابرات العامة والشرطة، وكذلك الدعم السريع، لأنه ليس معه حزب سياسي.
وعليه، أن يوازن بين الداخل والخارج وهذا يجعله كأنما يشير على شوك وهو حافي القدمين، لذلك كثير الحذر والتردُّد والتمهل، ولذلك تجده دائماً يكتب أفكاره وقراراته بقلم رصاص لا يحبرها إلا بعد التأكد من صحتها وقبولها من الأجهزة ومن الشعب، ويظن كثير ممن لا يدركون كنه ذلك أنه رجلٌ مُتردِّدٌ لا يتخذ القرار، ولكن العكس أنا أعتقد أنه متمهلٌ فقط ومُتروٍ.
في ظل هذه الظروف والمُعطيات، نقرأ تصريحات وخطابات البرهان منذ استلامه السلطة عام ٢٠١٩م، ونضيف إلى ذلك المتقلبات المحلية والإقليمية والدولية وظروف السودان الاقتصادية وصراع القوى السياسية في الداخل يمين ويسار، وظروف التغيير والانتقال والثورة والدولة، ثُمّ مطلوبات الحياة اليومية.
عليه، قبل أن نُحلِّل خطابات البرهان في مناسبات ومواقع عدة، يجب أن نضع في اعتباراتنا هذه الأشياء التي ذكرها، ولكن ننبِّه أن البرهان وحميدتي مُحتاجان إلى مُستشارين ذوي معرفة وحكمة وخبرة وعلم، ومحايدين وغير محتاجين إلى ذهبهما ولا دولاراتهما، مستشارين مؤتمنين ورجال عدول وأهل ثقة، ويقدمون الاستشارة بعلم ومعرفة دون طمع في مال ولا خوف.
عليه، وفق ما ذكرت أعلاه، نُحلِّل خطاب البرهان في المرخيات، لأنّ الخطاب احتوى على ست نقاط مهمة ستُحدِّد المرحلة القادمة، لأن الخطاب كتب لأول مرة محبراً وليس بقلم رصاص، لأنّ المخاطر حول السودان والمؤسسة العسكرية صارت واضحة جداً، ليس هنالك خيار آخر إلا التعامل معها بمعرفة وحسم، خَاصّةً وأنّ المعلومات متوفرة للقاصي والداني.
ننظر في الخطاب في المقال القادم