زين العابدين صالح عبد الرحمن
قبل ثورة ديسمبر بفترة؛ سألت رئيس حزب البعث السوداني الراحل محمد على جادين عن رؤيته لحل الأزمة السياسية في السودان. قال جادين”لابد من الحوار السياسي، باعتبار أن السلطة و القوى السياسية الاثنين في حالة من الضعف، و بالتالي ليس أمامهم غير مساومة سياسية يمكن أن نطلق عليها (مساومة الضعفاء) باعتبار أن الآلية العسكرية للمعارضة قد فشلت في استنهاض الجماهير، و انتظار أن يأتي الحل من الخارج يكون خصما على القوى السياسية بكل تكويناتها” و قد رحل جادين قبل أنطلاقة الثورة. و سألت رفيق دربه محمد بشير المعروف ب “عبد العزيز حسين الصاوي” لماذا فشلت القوى السياسية أن تتوافق لكي تنجز الفترة الانتقالية بسلام قال قبل رحيله ” أن مشكلة الديمقراطية في السودان غياب الفكرة و الاستنارة، فالنخبة تتعارك سياسيا، و أهملت الفكرة و هي تعلم أن التغيير يعتمد على الفكرة و العمل الاستناري في المجتمع، و لابد للرجوع للمعرفة للإنطلاق في رحاب المشروع الاستناري. و إذا رجعنا إلي “مذكرات عبد الماجد أبو حسبو الجزء الأول” تجده يتعرض للمشكل، عندما يقول أن المكتبات الحزبية فقيرة جدا، و هذا الفقر ينعكس بصورة تلقائية على الفعل السياسي. الأمر الذي يغيب المبادرات الوطنية التي تقود لعملية التغيير السياسي و الاجتماعي.
و الملاحظ: أن النخبة السودانية في مسيرتها التاريخية السياسية قد عجزت أن تجاوب على الأسئلة التي كانت قد طرحت من قبل النخب المثقفة في ثلاثينيات القرن الماضي، أي قبل الاستقلال في مجلتي (الفجر و النهضة) و نلاحظ الآن: أن الأزمة السياسية السودانية قد استحكمت حلقاتها تماما، و قد انعكست سلبياتها على كل المجتمع، و الكل يتلفت منتظر أن تخرج القوى السياسية بمشروع سياسي، أو مبادرة تفتح أفاقا للحوار الجاد بينها، دون أي شروط مسبقة، لكن الانتظار قد طال؛ و الكل معلق الأمال على مواكب الشباب أن تفتح نفاجا للحل. و الشباب قدموا تضحيات عظيمة من أجل التغيير السياسي في البلاد. رغم أن التيارات السياسية المختلفة تعلم أن عملية التغيير تحتاج للفكرة التي تنطلق منها. فالفكرة هي سيدة الموقف في عملية التغيير السياسي و الاجتماعي، إلا أن النخبة السياسية و حتى قطاع المثقفين عجز أن يقدم مبادرة تتراضى عليها كل التيارات الفكرية، الأمر الذي جعل فوكنر رئيس بعثة الأمم المتحدة يقدم مبادرته للحوار التي وجدت ردود افعال متباينة بين القبول و الرفض.
أغلبية النخب تتحدث عن انسداد الأفق السياسي، لكنهم لا يقدمون ما يفتح كوة في جدار الأزمة، و يعود ذلك أن النخب تعتمد في حراكها على الجدل السياسي البيزنطي الذي لا يقود إلي نتيجة إيجابية، بل يظل في دائرة السفسطة. الأمر الذي يخلف فراغا كبيرا يستدعى الآخرين أن يملأوا هذا الفراغ بمبادرات تهدف إلي تحريك الساكن، فحركة الفكر سوف تنقل الأزمة لمربعات جديدة متقدمة، تفرز أسئلة جديدة يجب أن تجيب عليها القوى السياسية. و الآن إذا نظرنا للواقع و مراقبته تجد أن مبادرة الأمم المتحدة (فوكنر) قد حركت الساكن، رغم الأراء المتباينة حولها، و تحريك الساكن يبدأ عندما كل قوى سياسية تحاول أن تقدم ردها على المبادرة، إذا كانت سلبا أو يجابا، و هذه الردود هي تحريك للواقع سياسي من مربعه الأول لمربع متقدم فيه مقولات تقبل الحوار. و أيضا تحريك الجمود العقلي من حالة الثبات التي وقع فيها. و الذين يرفضون المبادرة يجب عليهم أيضا أن يقدموا تصوراتهم البديلة التي تجاوزون فيها مبادرة ( فوكنر) و يحملون نصوصها للشارع الثآئر، و كما قال صاحب المبادرة ( فوكنر) أنهم لا يقدمون مقترحات و لا أجندة للحوار فقط أنهم مسهليين ( Facilitators) فالقوى السياسية و منظمات المجتمع المدني و الحركات و العسكر هم المناط بهم وضع الأجندة و المقترحات. و فوكنر عندما يقدم المبادرة يقدمها من منطلق ثقافته الديمقراطية، و ليس استنادا لواقع العلاقات بين القوى السياسية السودانية، و يجب قراءة المبادرة من هذه الزاوية، أن الذين يبحثون عن المبادرة من مواقع التخوين و المؤامرة، هؤلاء لا يجتهدون كثيرا، أنما يمارسون إسقاط للثقافة السياسية السودانية السائدة في المجتمع الآن على المبادرة المقدمة من فوكنر. و هي ثقافة خلفها النظام الشمولي السابق. و لا يمكن تجاوزها إلا بإنتاج ثقافة ديمقراطية بديلة.
أن النخب السودانية بقدر ما هي مطالبة أن تبحث عن حلول للأزمة في تجارب الشعوب الأخرى، و كيف استطاعت أن تنتقل بسلاسة التي من الشمولية إلي الديمقراطية، أيضا مطالبة أن تلعب دورا جوهريا في توعية الجماهير بالتحديات التي سوف تواجه مسيرة الديمقراطية و كيف يتم التعامل معها. أن فترات الانتقال دائما مليئة بالتحديات و المطبات لأنها ليس تغيير في الشعارات أنما تغيير في الثقافة و السلوك، و تحتاج للتعليم عبر الممارسة من خلال المواعين الديمقراطية الموفرة في المجتمع، هي معركة يجب أن يتقدمها الفكر. نسأل الله حسن البصيرة.