الانفلات الأمني في السودان ليس جديداً ونعيشه منذ ثلاثة عقود،فهو مشروع سياسي اتخذه النظام المخلوع وسيلة للبقاء في السلطة، ووفر له كل الظروف ليزداد ويتسع ويتنوع،ولم تعد هناك منطقة آمنة حتى الخرطوم حيث توجد قيادة الجيش والشرطة والأمن والدعم السريع، بل وتعتبر من أكثر مناطق السودان تعرضاً لانتشار العصابات، بسبب كبر مساحتها وكثافة سكانها وانتشار الأحياء العشوائية التي استوعبت أعداداً كبيرة من الذين نزحتهم وهجرتهم ظروف الحرب والفقر،مع عدم وجود سياسات تعالج المشكلة. ورغم ذلك لم يصبح الأمر مشكلة كما هو الآن، إلا بعد أن سقط نظام العصابة وتولى صناعة الانفلات.
الغريب حقاً هو(قوة عين) هذه العصابات التي أصبحت تنهب وتهاجم في وضح النهار ولا تجد من يتصدى لها،وأشهرها النيقرز التي ظهرت في عهد النظام المخلوع و9 طويلة التي ظهرت مؤخراً تحمل نفس الشعب والملامح. والأغرب أنها تخطت العاصمة إلى الولايات، ولا أدري إن كان الأمر مجرد تقليد أعمى أم هي امتداد لعصابات الخرطوم،والأشد غرابة من ذلك هو أن أغلب أعضائها صبيان ليست عليهم مسؤولية اجتماعية لنقول إنهم محتاجون، كما أنهم لا يسرقون سرقة من هو محتاج،بل يبدو أن هدفهم الأساسي هو ترويع الناس وإثارة الفوضى وترك ردة فعل اجتماعية واسعة.
حقيقة لا يمكن اتهام أية جهة بالتقصير في هذه الحالة غير الشرطة، حتى وإن لم تكن مقصرة،وهذا بالضبط ما حدث فالجميع يتهم الشرطة،والشرطة لا يمكنها أن تنكر هذا،فهي جهاز تعرض لتمكين كوادر المخلوع الفاسدين،كما أنها لم تهتم بتطوير نفسها ولا بقيمة الشرطي الذي يؤدي مهمة حماية المجتمع ويجب أن يكون له وضع خاص ويوفر له الأمن المعيشي ليؤدي دوره بكفاءة. وبما أن هذا معدوم فمن الطبيعي أن يحدث التقصير الذي يشعر به الجميع في نفس الوقت، خاصة أن تقصير كل القطاعات الأخرى يقع على رأس الشرطة وحدها .
الشرطة دائماً ترفض اتهامها بالتقصير وتحاول التبرير للأمر مع أن الأمر لا عيب ولا فضيحة وله أسبابه التي تحتاج إلى اعتراف ومعالجة، وتقديرها مثل التقصير الذي يعاني منه التعليم والصحة وغيرها وكلهم معترفون به،ويجب عليها هي أيضاً تقبله والتفكير خارج الصندوق لإيجاد حل جذري للمشكلة،فبلا شك الجميع يريدها شرطة قوية تجعل أي مجرم يتردد ألف مرة قبل أن يرتكب جريمته،والحق يقال ما لم تقم بقية المؤسسات بدورها كاملاً ستظل الشرطة مقصرة.
في شهر يوليو الماضي نقلت العين الإخبارية مما قالت إنه مصدر مسؤول بالشرطة تحدّث لها ونفى أن يكون هناك قصور من جانبهم أدى لازدياد جرائم “9 طويلة”،وأنَّ ما يحدث يمثل أحد مظاهر الاستغلال السيئ لمناخ الحريات العامة في السودان،مع أن هذا غير صحيح ولي لعنق الحقيقة يحقق أهداف النظام المخلوع، فحرية أي فرد توقفها الشرطة بالقانون عندما تنتهك حقوق الآخرين.
الشرطة تحتاج إلى تعاون من كل مؤسسات الدولة فهؤلاء المجرمون هم نتاج طبيعي لفشل الدولة في توفير الحياة الكريمة والاستقرار، فالشرطة لا تستطيع متابعة كل عاطل وجاهل ومريض ونازح ومهاجر وغيرهم قبل أن يتحولوا إلى مجرمين، ويجب أن تطول يد الدولة وتصل إلى كل مواطن في مكانه حتى ينتهي الانفلات بشكل نهائي.