اخبار السودانتقارير وحوارات

الحرب تلد حكومة: هل نحن أمام سودانين؟

تحليل سياسي ـ بهاء الدين عيسى
في يوم السبت 26 يوليو 2025، أعلنت قوات الدعم السريع وحلفاؤها في التحالف المدني “تأسيس ” تشكيل حكومة موازية في السودان، برئاسة محمد حمدان دقلو “حميدتي”، ونائبه عبد العزيز الحلو، ورئاسة وزراء محمد حسن التعايشي، في حدثٍ وُصف بأنه تصعيد خطير في الحرب المستعرة بالبلاد منذ أكثر من عامين.

وقد لاقى الإعلان رفضًا واسعًا من الجيش السوداني، وأثار تحذيرات دولية من احتمال تفكك السودان.

هذه الخطوة تمثل سابقة غير معهودة في الصراع السوداني، إذ تنتقل المعركة من ميادين القتال إلى معركة مؤسسات وسيادة ورمزية شرعية. فهل هي بداية دولة موازية؟ وهل تستكمل المشهد نحو انفصال جغرافي؟ أم أنها مقامرة سياسية في لحظة ضعف؟

الضربة القاضية للشرعية
إعلان حكومة في نيالا يمثل محاولة واضحة لنزع الشرعية عن سلطة الجيش في بورتسوان وفرض واقع سياسي جديد يستند إلى الأمر الواقع العسكري.
ورغم أن الدعم السريع لا يسيطر على الخرطوم ولا على معظم مناطق الوسط، إلا أنه يتمركز بقوة في دارفور وأجزاء من كردفان، ما يُكسب مشروعه “مساحة” وإن كانت غير مكتملة الأركان.

لكن تكوين الحكومة شابه ارتباك رمزي واضح؛ فالمجلس الرئاسي المكون من 15 عضوًا تضمن أسماءً من حركات مسلحة بعضها لا يمتلك نفوذًا ميدانيًا، مما يطرح تساؤلات حول مدى تجانس هذا التحالف وجدواه السياسية.

يصف البعض الخطوة بأنها مقامرة في رمال دارفور المتحركة. فالإقليم المنكوب تاريخيًا بالاحتراب القبلي والمجاعات، قد لا يكون منصة صلبة لبناء مشروع “دولة بديلة”. ومن ناحية عملية، لا تملك الحكومة الموازية مؤسسات مدنية حقيقية، ولا موارد اقتصادية كافية لبناء هياكل دولة.

بين “سودان جديد” و”وحدة السودان”
عار “السودان الجديد” ليس وليد اللحظة. فقد رفعته الحركة الشعبية منذ التسعينيات قبل إنفصال جنوب السودان في العام 2011 ، ثم أعاد حميدتي استخدامه بعد التحالف مع عبد العزيز الحلو. الفكرة تقوم على إنشاء دولة علمانية لا مركزية تقوم على التعدد الإثني والثقافي، في مقابل “السودان الإسلامي” الذي ارتبط بعهد الإنقاذ.

لكن من يمنح هذا المشروع تفويضه؟ لا انتخابات، ولا مشاورة شعبية، ولا توافق سياسي. الاعتماد الأساسي هو على السلاح.

وهنا تبرز المفارقة: حكومة تزعم تمثيل “السودان الجديد” من خلال القوة المسلحة، وتفرض نفسها على مناطق سيطرت عليها عسكريًا.

في المقابل، فإن أنصار النظام المعزول يقللون من جدوى الخطوة، ويرون أن الدعم السريع خسر معركته الرمزية بعد طرده من الخرطوم ومدن الوسط، وأنه يحاول ترميم صورته بواجهات مدنية وسياسية لن تصمد أمام الواقع العسكري المتغير.

لكن الأصوات الأكثر بصيرة ترى في إعلان حكومة نيالا ناقوس خطر: فهي ليست مجرد خطاب سياسي، بل تحرك فعلي نحو تقويض الدولة المركزية، وإعادة رسم الخريطة السياسية، وربما الجغرافية، للسودان.

هل انتهى زمن الحلول السياسية؟
ردة فعل الجيش جاءت قوية وحاسمة. الناطق باسمه وصف الحكومة الموازية بأنها “تمثيلية سمجة” و”غطاء لشرعنة مشروع إجرامي”. هذا التصعيد اللفظي يعكس توجّهًا نحو الحسم العسكري لا الحوار السياسي.

الجيش حقق مؤخرًا مكاسب ميدانية، أهمها استعادة السيطرة على وسط البلاد، وطرد قوات الدعم السريع من عدة ولايات كانت تسيطر عليها منذ بداية الحرب. وقد تبنّى الجيش مؤخرًا استراتيجية هجومية شملت قصفًا جوّيًا مركزًا، وتكتيكات عزل لوجستي لقوات الدعم السريع، خاصة في كردفان ودارفور.

وفي ظل هذا المشهد، لا يبدو أن هناك أفقًا لحل سياسي. فلا التفاوض مطروح، ولا الوسطاء الإقليميون قادرون على فرض تهدئة. الجميع يتحرك ضمن منطق “كسر العظم”، والجيش يؤمن أن أي تسوية تتضمن بقاء الدعم السريع كقوة مسلحة هي بمثابة انتحار للدولة السودانية.

الدول تتوجس.. والخرائط الدولية تترنح
الخطوة قوبلت بردود أفعال دولية غاضبة:
الأمم المتحدة عبرت عن قلقها البالغ، واعتبرت أن إعلان حكومة موازية “ينذر بتفكك السودان”، وطالبت بالحفاظ على وحدة البلاد وسلامة أراضيها.

المملكة المتحدة أدانت في السابق الخطوة، ووصفتها بأنها “ليست حلاً للحرب”، داعية إلى العودة للمسار المدني والتفاوضي.

الاتحاد الإفريقي وجامعة الدول العربية التزما الحياد الحذر، لكنّ مواقفهما تصب في خانة دعم الشرعية المعترف بها دوليًا.…

دول الجوار كتشاد ومصر وإثيوبيا تراقب بقلق بالغ، إذ أن أي تفكك في السودان سينعكس مباشرة على أمنها الإقليمي، خاصة مع وجود حدود طويلة ومفتوحة.

في المقابل، هناك إشارات إلى دعم غير مباشر من قوى إقليمية مثل الإمارات، التي تتهم بدعم قوات الدعم السريع لوجستيًا، وإلى حد ما من روسيا عبر مجموعات فاغنر سابقًا، رغم أن هذه العلاقة شابها التوتر مؤخرًا.

كل هذه المعادلات تشير إلى أن السودان لم يعد فقط مسرحًا لصراع داخلي، بل ساحة حرب بالوكالة، تتداخل فيها أجندات إقليمية ودولية، وتسابق محموم على النفوذ والثروات والخرائط.

بصيرة تتجاوز الهتاف
من السهل الوقوع في فخّ الاستقطاب: فإما أن تصف الخطوة بأنها “مسرحية سياسية” كما يرى أنصار النظام السابق، أو تمجّدها باعتبارها “ثورة السودان الجديد” كما يفعل بعض أنصار الدعم السريع. لكن القراءة الواقعية تكشف عن خطر أعظم:
ـ نحن أمام سلطة أمر واقع في الغرب: تعمل على تأسيس مؤسسات، إعلان عملة، وثائق هوية، وحتى توزيع حكومات إقليمية، ما يقترب من نموذج “الدويلة”.

ـ انهيار الأمن الغذائي في مناطق سيطرة الدعم السريع بات وشيكًا، حيث تقارير أممية تتحدث عن مجاعة حقيقية في دارفور وكردفان، تفاقمها سيطرة المليشيا على الممرات الإنسانية.

ـ الجيش يجنح إلى الحسم الشامل، ما يعني أن الحرب ستزداد شراسة، مع توسع رقعة النزوح والدمار، ومزيد من التمزق الاجتماعي.

وبين هذين المشروعين المتصارعين: أحدهما يسعى لفرض واقع بالقوة دون شرعية، والآخر يدافع عن وحدة الدولة بسلاح الدولة، تضيع البلاد، وتتمزق خريطتها.

هل يمثل إعلان الحكومة الموازية في نيالا الخطوة الأخيرة قبل انهيار الدولة السودانية ككيان موحد؟ .

أم أنها مجرد فقاعة سياسية في لحظة ضعف عسكري لقوات الدعم السريع؟ وهل يمكن أن تفضي هذه المعركة إلى ولادة كيانين متناحرين على الأرض، أحدهما معترف به دوليًا، والآخر واقع فعلي بحدود مفروضة بالنار؟
أم أن هناك متسعًا بعد للعودة إلى مائدة الوطن؟

اضغط هنا للانضمام الى مجموعاتنا في واتساب

بهاء  الدين عيسى

صحفي سوداني بارز، نال جائزة “أفضل إنجاز صحفي” ضمن مشروع كلمات سودانية من المؤسسة الفرنسية للتنمية، يُعرف بجرأته في التحقيقات الاستقصائية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى