الخرطوم – الراي السوداني
رغم أن الحرب فرّقت الصحفيين ومزّقت قلب الخرطوم، ما تزال بعض ملامح المدينة حيّة في الذاكرة.
في مقدمتها تبرز ابتسام داؤود، المعروفة في الوسط الصحفي باسم “وارقو”، سيدة الشاي التي كانت بسطتها في شارع الجرائد أكثر من مجرد مكان للقهوة… كانت ملاذًا دافئًا، وصوتًا يشبه الوطن في حضنه وأمانه.
وارقو لم تكن بائعة شاي عادية. كانت القلب النابض للصحفيين، تحفظ وجوههم، وتعرف مواعيد حضورهم، وتجهّز لكل واحد منهم “براد شاي” على مزاجه.
لكن قبل أيام، قالت شيئًا لم يقله أحد من قبل، وفاجأت الجميع بإنسانيتها التي تخطّت حدود الفقر والبساطة.
تحكي الصحفية سارة إبراهيم أنها اتصلت بوراقو لتطمئن عليها، وخلال الحديث، أخبرتها أن الزميل الصحفي أشرف عبد العزيز، رئيس تحرير صحيفة الجريدة، يُعاني من فشل كلوي ويتلقى العلاج حاليًا في القاهرة.
فما كان من وارقو إلا أن شهقت بحرقة، وقالت من فورها:
“حيييييا.. اعملوا لي الفحوصات، شيلوا لي كليتي ودوها ليه.”
جملة واحدة اختزلت فيها الأمومة، الوفاء، والفطرة النقية التي لا تتساءل: بل تبادر، تعطي، وتدعو.
شاي بطعم الوطن
من يعرف شارع الجرائد، يعرف أن بسطتها لم تكن مجرد مكان للاستراحة، بل منصة غير رسمية للمشاورة والتحليل والنقاش.
كان براد الشاي عند وارقو دافعًا ليبدأ يومك، ومرفأً تلجأ إليه حين تضيق بك الدنيا أو تتحامل عليك الأخبار.
غابت بفعل الحرب، لكنّ ذكراها بقيت في وجدان كل من مرّ على فنجانها، أو استظل ببسمتها.
تقول سارة:
“كنا نعرف أن الخرطوم بخير، طالما وارقو موجودة.”
صدى واسع
ما قالته وارقو وجد صدى واسعًا في الوسط الصحفي، وانتشرت قصتها كوميض في عتمة الأخبار.
لم تكن رسالة رسمية، ولا مبادرة من جهة، لكنها أعادت تعريف معنى التضامن، وقدّمت درسًا عمليًا في الإنسانية.
أشرف عبد العزيز، الذي ظل لسنوات طويلة يكتب من أجل البسطاء، وينحاز للناس، وجد هذا الانحياز يعود إليه من أكثرهم وفاءً: امرأة بسيطة، عظيمة، لا تملك إلا قلبًا كبيرًا و”براد شاي”.
في بلد تتآكل فيه المؤسسات، ما زال الأمل يأتي من الناس.
قالت وارقو:
“شيلوا لي كليتي ودوها ليه.”
فأعادت إلينا ثقة قديمة بأن السودان ما زال بخير.
هي ليست بائعة شاي فقط، بل مرآة لضمير المدينة، ودرس حيّ في الوفاء.
ووسط هذا الركام، تبقى أمثال وارقو هم الذين يمنحوننا القدرة على الاستمرار.