القوة الثالثة في 22 يوليو: شهادة شامبي في وادي الحمار، عطبرة
عبد الله علي إبراهيم
(من كتابي “مذبحة بيت الضيافة: التحقيق الذي يكذب الغطاس” (المصورات 2017)”
التمست في كلمة الاسبوع الماضي أن نطوي سجل مذبحة بيت الضيافة (1971) بوضعه أمام لجنة خبراء من علماء الأدلة والبراهين حتى يقرروا من قتل الضباط الذين تحفظ عليهم مدبرو انقلاب 19 يوليو 1971 في ذلك البيت. فقد أنكر الشيوعيون قتلهم وحمَّلوا الوزر ل”قوة ثالثة” خططت للخلاص من المنقلبين ونميري معاً ليخلو لها الجو. ومبعث دعوتي لهذا التحقيق في المذبحة هو تطاول الزمن بنا ونحن نتجادل في الأمر بينما بقي أولياء الدم (الذين كاد جيلهم الثالث يعي مقتل الجدود) على هامشه. وهذا إسراف في التسيس ملحاح وسقيم لن تشفينا منه سوى كتابة تحقق في المذبحة من كل وجوهها ومن كامل إرشيفاتها. وصحاً جاء وكضباً راح.
لم يجف حبر حديثي عن شفاء الكتابة حتى طفح للسطح تسيس رديء أخر. فقد مرت علينا منذ أيام الذكرى الرابعة للموت المروع للعقيد جون قرنق والفتنة الذميمة التي أعقبت فقده الجلل (3 اغسطس 2005). وتماسكت أطراف منا الحزز حول مغازي ذلك اليوم. فاستعصمت كل منها برؤيتها لذلك اليوم عمياء عن رؤاه الأخرى. وهذا تشبث بالتاريخ الأصاغر (تاريخ حقائق الجماعة وضغائنها) الذي لا تجتمع روافده في التاريخ الأكابر وهو تاريخ حقائق ذلك اليوم ووقائعه جميعاً. فقد وجدت جريدة الإنتباهة، منبر السلام العادل ، احتفت بوقائع الفتنة التي حمَّلت وزرها للحركة الشعبية. وسَّمت فعائلها الدموية المزعومة ب “النصل الخؤون”. ورتبت على ذلك مطلبها المعلوم بالضرورة عن إنفصال السودان بغير إحسان.
أما جريدة أجراس الحرية، منبر الحركة الشعبية، فركزت على فقد قرنق ولم تذكر حرفاً عن الفتنة. بل وصف مقال فيها قرنق بأنه “الريس الذي جلب المرح من قرونه”. ومعروف حس قرنق الفكه بالطبع. ولكن هل هذا وقته؟
قلت في كلمة أسبوعنا الماضي إنني سأعرض لنظرية الشيوعيين عن “القوة الثالثة” التي حمَّلوها وزر مذبحة بيت الضيافة بما توفر من وثائق. ولا أعرضها كحق لا يأتيه باطل بل مساهمة في تركيب شتات الإفادات بصورة تساعد حتى الخصم على تمييز ضربه.
روج الشيوعيون لنظرية القوة الثالثة في كتيب كان من أول ما صدر عنهم في نحو سبتمبر 1971 برغم الضربة الموجعة التي أنزلها بهم نميري. وقد قرأته في تلك الأيام ولم أره بعد أو أسمع عنه حتى بدا لي أنه اضغاث فكرية انتابتني. وعرض الكتاب بصورة وثقي لحجتهم في أن المقتلة في بيت الضيافة نجمت عن ضرب الدبابات التي هاجمت القصر بزعم تحرير نميري بعد أن اتضح لهم أن انقلابهم المستقل قد تبخر في بعد نجاة نميري والتفاف جماهيره حوله. وأتمنى ان نعثر على هذا الكتيب حتى لو كان في خزائن جهاز الأمن لنضعه أمام اللجنة المقترحة للتحقيق في واقعة بيت الضيافة (عثرنا عليه).
ثم تواترت إفادات قوَّت من معقولية وجود هذه القوة الثالثة قامت بالمذبحة أو لم تقم. وارتبطت هذه الشهادات بالمحاكمات التي انعقدت في سلاح المدفعية بمدينة عطبرة لإنقلابي سبتمبر 1975 المعروف لنظام نميري ب “المؤامرة العنصرية”. وهو الانقلاب الذي تزعمه المرحوم حسن حسين عثمان. وكان أول عهدي بهذه الشهادة هو ما قرأته للأستاذ محمود إدريس.
فكتب بعد الإنتفاضة في 1985 عن ليلة قضاها كمحرر سهرة بإحدى صحف النظام المايوي. فاتصل به مكتب وزير الإعلام يطلب منه ألا ينشر ما ورد في شهادة قدمها أحد ضباط أو صف ضباط الانقلاب مفادها أنهم اشتركوا في هزيمة انقلاب 19 يوليو لصالحهم هم ولم تكن عودة نميري للحكم قصدهم. ولكن عمر الشقي بقي. فخرج نميري للناس وجَيَّرت القوة الثالثة انقلابها لصالح القائد العائد.
لم تكن مقالة محمود بيدي وأنا أكتب هذه الكلمة. وهذا سبب التعميم الذي أصابها. وسيصعب جرح شهادة محمود لأنه أنصاري له موجدة مؤكدة من الشيوعيين. ولكن الشهادة التالية ستوضح ما خفي. فقد كتب العميد أ.ح هاشم الخير إلى قائمة “سودانيات” على الإنترنت في إحدى مناسباتها لتجديد ذكرى انقلاب 19 يوليو 1971. وكان عنوان تلك المناسبة: “مذبحة بيت الضيافة بين الأسطورة وأحلام العسكر ومكر السياسة”. قال العميد إنه تابع أقوال الملازم المرحوم شامبي، أحد أميز إنقلابي 1975 وأشجعهم، خلال محاكمته لدوره في ذلك الانقلاب. وكانوا يذيعون وقائع المحاكمة بعد نشرة الثانية والنصف من راديو هنا أم درمان.
قال شامبي في اقواله أمام المحكمة إنه عضو تنظيم سياسي بدأ العمل منذ منتصف الستينات والتزم به منذ عهده كطالب بالثانوية. وقال إنه التحق بالقوات المسلحة وكان هدفه من ذلك الاستيلاء على السلطة بالانقلاب العسكري. وهو بالتالي تنظيم بدأ قبل مايو واستمر خلالها. ولما قامت 19 يوليو اعتقد شامبي ومن معه أنها سانحة للقضاء على المايويين المحتجزين في قصر الضيافة والشيوعيين في برنامج واحد. وقال شامبي إن ما أفسد الأمر هو خروج نميري سالماً فرجحت كفته وخابت خطتهم.
وعلق العميد: “هذا ملخص ما سمعته أذني من شهادة الملازم شامبي كما أذاعتها الإذاعة السودانية”. وأضاف “وللمفاجأة في اليوم التالي تم إيقاف إذاعة المحاكمات عن طريق الإذاعة السودانية”.
لنظرية القوة الثالثة وجاهة في البادي حتى تثبت أو تسقط تحت مجهر التحري التاريخي. وسيكون سجل الإذاعة لمحاكمة انقلابي 1975 ووقائع المحكمة العسكرية الخطية بالقضاء العسكري وإفادات شهود المحكمة والإعلاميين مما تثبت به تلك النظرية أو تروح أدراج الرياح. صحاً جاء وكضباً راح. وسنتطرق لجانب آخر من نظرية القوة الثالثة في حديثنا القادم.