اخبار السودانتقارير وحوارات

خطاب أفورقي.. السٌودان ساحة المعركة والقرن الإفريقي على فٌوهة بركان

تحليل سياسي – بهاء الدين عيسى – الراي السوداني
في مقابلة متلفزة بثّتها الفضائية الإريترية، الأربعاء أطلق الرئيس أسياس أفورقي تصريحات بالغة الدلالة عن الأزمة السودانية، وضع من خلالها تصورًا متكاملًا لطبيعة الصراع، مزيجًا بين سرد سياسي وتحليل استراتيجي عابر للحدود. حديث أفورقي، وإن بدا في ظاهره تناولًا للشأن السوداني، إلا أنه في جوهره يكشف ملامح مقاربة إريترية شاملة للمشهد الإقليمي، ويُرسل رسائل صريحة ومضمرة لأطراف دولية وإقليمية، من بينها إثيوبيا، الإمارات، والأمم المتحدة.

تتبدّى في خطابه نبرة تنذر بتحوّلات عميقة في موقف إريتريا من الحرب السودانية، وتشي بسعيها لاستعادة دورها كمركز توازن استراتيجي في القرن الإفريقي، في وقت تتعاظم فيه التهديدات حول حدودها الشرقية والجنوبية، وتنشط فيه قوى إقليمية على نحو يهدد توازنات البحر الأحمر والمنطقة الأوسع.

صراع الجنرالات إلى العدوان الخارجي

أولى الرسائل التي سعى أفورقي لتكريسها هي إعادة توصيف الحرب السودانية باعتبارها عدوانًا خارجيًا، لا صراعًا داخليًا بين جنرالين أو طرفين متنازعين.

فهو يرى أن جوهر الأزمة يكمن في تعطيل مسار تسليم السلطة للشعب، محمّلًا مسؤولية ذلك لتدخلات خارجية، وتدفقات سلاح قادمة من ليبيا وتشاد. بهذا يبرّئ المؤسسة العسكرية السودانية من مسؤولية الحرب، ويمنحها صكّ الشرعية بوصفها “أمينة على السلطة”، في مقابل قوات الدعم السريع التي اتهمها بأنها أداة مأجورة تحرّكها مصالح مموّليها.

تلك المقاربة تتقاطع مع سردية النخبة الحاكمة في الخرطوم، لكنها تنزع عنها الطابع المحلي، لتدرجها ضمن مشروع إقليمي أشمل، ترى فيه إريتريا استهدافًا ممنهجًا للدول الوطنية في الإقليم. وهذا التأطير يُعيدنا إلى رؤية أفورقي التقليدية للدولة: كيان مركزي شديد الانضباط، يرفض المليشيات، ويُقصي كل من يحمل مشروعًا مغايرًا لمنطق الدولة الصلبة.

نقد جذري للإسلاميين وتحميلهم المسؤولية

وفي قراءة تستدعي سردًا زمنيًا طويلًا، حمّل الرئيس الإريتري الحركة الإسلامية السودانية مسؤولية الانهيار الذي تشهده البلاد، مشيرًا إلى أن الأزمة الحالية هي امتداد لتشوهات حكم الإسلاميين منذ عام 1989، بل منذ بداياتهم في عهد نميري عام 1983. واعتبر أن مشروع “التمكين” الذي قادته الجبهة الإسلامية قد قاد السودان إلى عزلة داخلية وخارجية، ونتج عنه تفشٍ للفساد وسوء الإدارة وانقسام في الهوية الوطنية.

أفورقي لم يتوان عن وصف وصول الإسلاميين إلى الحكم بـ”الكارثة”، مؤكدًا أن انفصال جنوب السودان ما كان ليحدث لولا السياسات الإقصائية التي انتهجها النظام، خاصة تلك التي عززت العروبة والإسلام على حساب الهوية الإفريقية. وهو بذلك لا يهاجم تيارًا سياسيًا فحسب، بل يُدين نموذجًا أيديولوجيًا كاملاً، يراه تهديدًا بنيويًا لاستقرار السودان، وللمجال الإقليمي برمّته.

اتهامات واضحة ورسائل مزدوجة

في تحوّل لافت، اتهم أفورقي دولة الإمارات العربية المتحدة بأنها تلعب دور “الوكيل” لقوى خارجية في السودان وليبيا وتشاد، مؤكدًا أنها تنشط في البحر الأحمر على نحو مريب. هذا التصريح، على ندرته، يكشف عن تحوّل في المزاج الإريتري تجاه أبوظبي، التي كانت في وقت قريب تُعد حليفًا رئيسيًا لأسمرا في الملفات الاقتصادية والأمنية.

لكن أفورقي لم يكتفِ بذلك، بل وجّه نقدًا لاذعًا للأمم المتحدة، واصفًا تدخلها في السودان بـ”المعقّد للأزمة”، ومتسائلًا بسخرية عن طبيعة المصالحة التي تدعو إليها. دعوته الصريحة لـ”كفّ اليد” الأممية عن السودان تعبّر عن رفضٍ عميق لأية وصاية دولية على الخرطوم، وتحمل في طياتها تخوّفًا من تدويل الأزمة بما يُضعف من موقع الفاعلين الإقليميين — وعلى رأسهم إريتريا.

توترات إثيوبيا وإريتريا

رغم أن الخطاب لم يتطرق مباشرة إلى إثيوبيا، إلا أن قراءته في سياق التصعيد المكتوم بين أسمرا وأديس أبابا تضعه في موقع الرسالة غير المباشرة. فإريتريا التي قاتلت إلى جانب أبي أحمد ضد جبهة تيغراي، تجد نفسها اليوم محاطة بجمر مشتعل: نزاعات متجددة في شمال إثيوبيا، طموحات أديس للحصول على منفذ بحري، وتصعيد محتمل على حدودها الجنوبية.

من خلال السودان، يُلوّح أفورقي برغبته في تأكيد موقع إريتريا كفاعل مركزي لا يمكن تجاوزه، وأن أي ترتيبات أمنية أو سياسية في الإقليم لا بد أن تمر عبر أسمرا. فالسودان في رؤيته ليس ساحة صراع معزولة، بل جزء من معادلة توازنات تهدد بتفكك القرن الإفريقي إن تُركت دون تدخل واعٍ ومسؤول.

خطاب أسياس أفورقي لم يكن مرافعة عن السودان فحسب، بل كان إعلان موقف إريتري متكامل من الحرب، ومن هندسة الإقليم الجديد.

فقد أعاد تموضع بلاده ضمن مشهد متقاطع تتصارع فيه المشاريع العسكرية، والأطماع الإقليمية، والنزعات الأممية.
وفي ظل انسحاب بعض القوى التقليدية من المنطقة، وسعي أخرى لملء الفراغ، يبدو أن أفورقي اختار أن لا يبقى متفرجًا.

بل أعلن، بلغة تحذيرية واضحة: السودان ليس حلبة صراع معزولة، بل مرآة لمستقبل القرن الإفريقي. وإذا ما استمر تجاهل تعقيداته، فإن المنطقة بأسرها مهددة بالانزلاق نحو هاوية يصعب الخروج منها.

 

اضغط هنا للانضمام الى مجموعاتنا في واتساب

بهاء  الدين عيسى

صحفي سوداني بارز، نال جائزة “أفضل إنجاز صحفي” ضمن مشروع كلمات سودانية من المؤسسة الفرنسية للتنمية، يُعرف بجرأته في التحقيقات الاستقصائية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى