الأبيض – الراي السوداني
في أحد أركان مدينة الأبيض التي تحاول أن تتنفس وسط ركام الحرب والقلق، تجمّعت عشرات النساء، تحمل كل واحدة منهن حكاية، وقلقًا، وفكرةً لم تُدفن بعد. كانت الوجوه شاحبة قليلاً، ولكن العيون تلمع كأنها تعرف الطريق رغم الضباب.
“شبكة صيحة”، وهي منظمة نسوية ذائعة الصيت كانت هناك، تدرك حجم الألم، لكنها تؤمن أكثر بقدرة النساء على الصمود. ضمن مشروعها “لا يمكننا الانتظار”، نظّمت بالتعاون مع شبكة المساواة النوعية بشمال كردفان منتدى اقتصاديًا في مدينة الأبيض، جمعت فيه صاحبات المشاريع الصغيرة. لكن المنتدى لم يكن مجرد لقاء تقليدي؛ كان مساحة لبثّ القلق، تبادل الخوف، ثم تحوّله إلى فكرة قابلة للحياة.
النساء تحدثن عن كل شيء. عن الركود القاتل في الأسواق، وعن الزبائن الذين اختفوا كما تختفي الطمأنينة. تحدثن عن الخوف من الخروج، وعن انقطاع سلاسل التوريد، وعن خسائر يومية لا أحد يُعيرها انتباهًا. ومع ذلك، لم يكن اللقاء بكائيًا، بل نابعًا من إيمان دفين بأن شيئًا ما يمكن إنقاذه.
قالت شبكة صيحة إن المنتدى جاء استجابة لحاجة حقيقية، بعد أن أغلقت الحرب في وجه النساء أبواب الرزق، وجعلت من المشاريع الصغيرة مصدر الدخل الوحيد في كثير من البيوت. المنتدى كان محاولة لإعادة بناء الثقة بين النساء وأفكارهن، وبينهن وبين المجتمع.
في إحدى الجلسات، اقترحت إحدى المشاركات إطلاق مبادرة لتبادل الموارد والسلع بين المشاريع النسائية. أخرى تحدّثت عن إنشاء سوق أسبوعي داخل الأحياء. نساء ثالثات ناقشن فكرة الدعم النفسي المتبادل، وتكوين شبكات مصغرة للتخطيط المشترك. كانت الأفكار بسيطة، لكنها مشبعة بالحياة.
قالت صيحة: “في كل مرة نصغي للنساء، نكتشف أنهن لا يبحثن عن معجزات، بل عن فرصة واحدة فقط… فرصة لمواصلة ما بدأن، بعيدًا عن صوت الرصاص والخذلان.”
وترى الشبكة أن هذا النوع من المبادرات ليس ترفًا، بل ضرورة حتمية في بلد تمزقه الحرب وتُقصي فيه النساء غالبًا عن دوائر القرار والدعم. فالمرأة هنا ليست مجرد متضررة، بل شريكة في الصمود، وصانعة لاقتصاد صغير لكنه قادر على النجاة.
شبكة صيحة تؤمن أن تمكين النساء صاحبات المشاريع الصغيرة في هذه المرحلة العصيبة هو استثمار مباشر في بقاء المجتمع. ليس فقط لإنقاذ البيوت من الفقر، بل لإنقاذ ما تبقى من كرامة الحياة في زمنٍ يُداس فيه الأمل كل يوم.