«القصة»… وراها قصة!
في الأسابيع القليلة الماضية، ظهر برنامج سوداني جديد يُدعى “القصة”، وسرعان ما تحوّل إلى حديث الشارع، وتصدّر قوائم المشاهدة على منصات التواصل الاجتماعي، مخترقًا بجرأة حدود الجغرافيا والسياسة.
يقدّم البرنامج محتوى يعتمد على الأخبار المسربة، والوثائق النادرة، والتحقيقات البصرية، التي أُعدّت بشكل احترافي غير مألوف في المشهد الإعلامي السوداني.
لكن، وعلى الرغم من الحفاوة الشعبية، يبقى السؤال المشروع الذي يجب أن نطرحه اليوم هو: من يقف وراء “القصة”؟
ولماذا يُنتَج بهذا الشكل الممنهج والمتقن؟
وهل ما نشاهده فعلًا مجرد “برنامج يوتيوبي” عفوي… أم أن وراء القصة، قصة أكبر بكثير؟
كمشتغلين في مجال الإعلام، نعلم أن إنتاج هذا النوع من البرامج يتطلب فريقًا لا يقل عن 20 إلى 30 شخصًا، يعملون بدوام كامل في مجالات متعددة: من الرصد والتحليل، إلى القراءة والتلخيص، مرورًا بالتقديم البصري، والتصميم الجرافيكي، والتحقيق الصحفي.
هذا يعني أننا أمام مؤسسة إعلامية متكاملة الأركان، وليست مجرد مبادرة فردية أو مشروع عابر.
البرنامج لا يكتفي بعرض المعلومات، بل يُسلّط الضوء على زوايا حساسة في المشهد السوداني، مستندًا إلى تسريبات ومصادر غير معلنة، ويعرضها بأسلوب درامي يُعبّئ المشاهد ويؤثر فيه عاطفيًا.
وهنا يكمن القلق الحقيقي: أن تتحول مثل هذه البرامج إلى أدوات تعبئة غير مسؤولة للرأي العام، خاصةً في بلد هش سياسيًا وأمنيًا مثل السودان.
اللافت أن مقدم البرنامج من الشخصيات التي سبق أن وُجهت إليها اتهامات في المملكة العربية السعودية بالتحريض وإثارة الفتن، وها هو اليوم يعاود الظهور بمحتوى أكثر حساسية وخطورة، متقمصًا دور الصحفي الاستقصائي المستقل، بينما الحقيقة قد تكون شيئًا آخر تمامًا.
وبينما ينشغل البعض بتأثير البرنامج وانتشاره، فإن ما ينبغي الالتفات إليه هو هشاشة البيئة الإعلامية السودانية، وقابليتها للاختراق، وضعف المنظومة الرقابية، مما سمح لمحتوى عالي الحساسية أن ينتشر دون رقيب أو حسيب، وأن يتلقاه المواطن داخل السودان دون تمحيص أو تحقق.
من هنا، يصبح لزامًا على الجهات المعنية، إن كانت حريصة فعلًا على استقرار الرأي العام، أن تتخذ إجراءات عاجلة للحد من وصول مثل هذه البرامج إلى الجمهور السوداني.
الحجب الرقمي من داخل السودان، وضبط تداول المقاطع، وتوعية الناس بمصادر المعلومات، ليست ترفًا… بل ضرورة وطنية في هذه المرحلة.
إن “القصة” ليست مجرد قصة تُروى…
بل مشروع إعلامي متكامل قد يتحوّل إلى أداة في يد أطراف تسعى إلى زعزعة الوعي الجمعي، وبث الفتن بين أبناء الوطن الواحد.
فإلى متى نظل متفرجين؟
وإلى أي مدى نسمح بأن تتحول شاشاتنا إلى مسارح لحروب الآخرين؟