ضجت وسائط الأخبار بما أوردته وكالة “رويترز” نقلاً عن مصادر أن الدكتور عبد الله حمدوك رئيس الوزراء الانتقالي “يعتزم” الاستقالة خلال ساعات!.. ثم نقل موقع “العين” الإخباري -عن مصادر أيضاً- أنه عدل عن “اعتزامه” تقديم الاستقالة، وربما حتى لحظة نشر هذه السطور ووصولها إلى القاريء يتغير الموقف أما بتنفيذ “الاعتزام” أو بالعدول عن “الاعتزام”.
في التاريخ السياسي السوداني كلمة “استقالة” تبدو مثل فوز المنتخب السوداني ببطولة خارجية، ظلت حادثة نادرة في بطولة أفريقيا 1970 ، أما في السياق السياسي فصاحبها توفاه الله ولا يزال الناس كلما ذُكر اسمه أتبعوه بعبارة “الوزير الذي استقال”، وكأني ما من عمل أثقل وزناً في صحائف الساسة في السودان من “الاستقالة”.
خلال مسيرته القصيرة في مشوار السياسة السودانية ، الدكتور عبد الله حمدوك كان أفضل من يجيد استخدام فعل الامتناع عن الفعل،في حوالى ثلاث سنوات من عمر الثورة لم يرصد له قرار استثنائي غير الروتين المعتاد، وكلما اشتدت بالبلاد أزمة سياسية فَعّل “وضع الطيران” و جلس في منصة الجمهور يراقب من بعيد، فيفسر جمهوره المتيم به حد الوله صمته بأنه عين الفعل، بل وينسجون له قصصاً متوهمة لتفسر الـ”لا” فعل بأنه من عمق الفعل الخفي، أشبه بما يزجه المريدون في سيرة شيخهم من أساطير.
الحقيقة أن القدر وضع الدكتور عبدالله حمدوك في أعلى موضع لاتخاذ القرار بعد الثورة، موضع الزعامة الملهمة التي لا تقود الجهاز التنفيذي والسياسي فحسب، بل الشارع كله وتلهم الثوار الصواب من الخطأ في العمل الجماهيري العام.ووهبه الشعب السوداني دعماً لم ينله قبله إلا الإمام محمد أحمد المهدي عليه السلام، كان كافياً أن يخرج حمدوك إلى الشعب ليعلن قراراً أو يطلب طلباً فيجد في الشارع ثلاثين مليوناً لا يسألونه حيثيات أو سبباً. كانت الحرية والتغيير كلها في كفة وحمدوك في كفة أخرى أقوى وأثقل وزناً منها جماهيرياً.
ومع ذلك لم يكن حمدوك قادراً إلا على إطلالات متباعدة عبر تغريدات “تويتر” وغالباً في مناسبات روتينية بروتوكولية، أهدر كل هذ الرصيد الجماهيري الضخم كما يهدر الوارث المُنعّم ثروة أتته بلا تعب.
أضاع حمدوك ثلاث سنوات ذهبية من عمر الثورة السودانية التي يفترض أنها مرحلة بناء دولة سودانية شامخة جديدة، ولا يزال مستعداً لإضاعة سنوات إضافية أخرى طالما غير قادر على تشكيل حكومة بعد شهر كامل من عودته لمكتبه، أقصى ما أصدره من قرارات حتى الآن هو تعيين (موظفين) في درجات أقل كان أحق أن يتولى إصدارها الوزراء بحكم تخصصهم لكن يبدو أنها أيضاً حلقة في مسلسل إضاعة الوقت بتوهم الإنجاز.
رئيس الوزراء بحكم منصبه يمثل الدولة المدنية، وأي ضعف في ممارسته لمهامه ومنصبه تؤذي الدولة المدنية في ظل شراكة مع مكون عسكري منظم ومرتب وسريع في القرار وله طموحات كبيرة للتمدد في السلطة حتى إلى مابعد الفترة الانتقالية.
من الحكمة أن ينفذ الدكتور حمدوك “اعتزامه”، سيكسب احترام الشعب السوداني كونه ثاني رجل في تاريخ السودان يستقيل من منصبه.. و يترك فرصة لغيره ليواصل المهمة بصورة أفضل