ارتفعت وتيرة الخلافات السياسية بين المكونين العسكري والمدني في السودان، إذ يبدو أن المجلس العسكري يسعى من خلال التظاهرات والاعتصامات المتنامية لضمان بقائه على رأس مجلس السيادة الانتقالي، وهو ما ينذر بأن البلاد تسير نحو أزمة سياسية وأمنية هي الأخطر منذ سقوط نظام عمر البشير. ودفعت هذه التطورات الخطيرة المجتمع الدولي إلى التحرك لإيجاد حلول للخلافات بين الفرقاء السودانيين بما يضمن استقرار البلد واحتواء الأزمة التي تمتد تداعياتها إقليميا ودوليا.
أشاع الاستقطاب الحاد بين قوى سودانية مختلفة أجواء من القلق بشأن المصير الذي يمكن أن تنتهي إليه الأزمة الحالية التي أخذت مفرداتها في البداية شكل صراع بين المكونين المدني والعسكري، ثم دخلت على خطوطه جبهات متعددة يمكن أن تخرجه عن مساره السياسي وتدخله في مسار شديد القسوة على البلاد.
وتراقب جهات إقليمية ودولية تفاعلات الصراع الذي لن يكون نطاقه محصورا داخل السودان، فجغرافية هذه الدولة المترامية تؤدي إلى تأثيرات كبيرة على دول الجوار في حالتي الحرب والسلام، وهو ما جعل الإدارة الأميركية تنوي إرسال مبعوثها للقرن الأفريقي جيفري فيلتمان إلى الخرطوم بعد نحو أسبوعين من زيارة سابقة التقى فيها الكثير من المسؤولين ولم يفلح في تذويب الهوة بين المكونات المتصارعة.
وتؤكد زيارة فيلتمان المنتظرة أن الأزمة وصلت إلى مستوى حاد من التصعيد عقب الاعتصام الراهن أمام القصر الجمهوري، والذي يشير إلى عدم انفضاضه قبل تحقيق شعاراته المعلنة وفي مقدمتها إقالة الحكومة وتشكيل أخرى تراعي ما يوصف بالتوازنات بين مكوناتها السياسية وتستكمل الاستحقاقات الدستورية، وشعاراته المبطنة وأبرزها تفويض المكون العسكري في قيادة المرحلة الحالية حتى نهايتها.
تخريب المرحلة الانتقالية
المدنيون يعولون على المجتمع الدولي ويتجاهلون أن قواه غير قادرة على هندسة أوضاع أي بلد ينجرف بقوة نحو الاقتتال
اعترف رئيس الحكومة السودانية عبدالله حمدوك أن هذه أخطر أزمة تمر بها البلاد منذ سقوط نظام الرئيس السابق عمر البشير، وحاول في خطاباته واجتماعاته التعامل معها بطرق دبلوماسية مرنة، حيث يعرف أن الوصول إلى الصدام المفتوح بين القوى المتباينة يؤدي إلى ما هو أبعد من تخريب السلطة الانتقالية.
ولجأ حمدوك إلى تشكيل ما يسمى بـ”خلية لإدارة الأزمة” غير معروف أعضاؤها وأهدافها وآليات عملها، وتحوي اعترافا واضحا بقتامة الموقف وعدم قدرة على فك ألغازه بعد أن ظل الجناح العسكري صامتا، وبدأ فلول النظام السابق يوظفون الاحتقان لصالحهم أملا في إدخال تعديلات على التوازن الهش المعمول به حاليا، بما يجعلهم جزءا منه في أقرب فرصة ممكنة.
وسط السحب التي تراكمت الأيام الماضية وما أضافه الاعتصام المفتوح من تعقيد في الأزمة، أصبح السودان أمام سيناريوهين، يدور أحدهما في فلك الفشل التام وفتح الباب أمام ما يصفه البعض من السياسيين بـ”الجحيم”، والآخر لا يستبعد انكسار حدة الأزمة والعودة بها إلى مربع الهدوء.
يستند كل سيناريو إلى محددات تجعل الوصول إليه سهلة، وكوابح يمكن أن تمنع ذلك، وما يرجح كفة خيار على آخر ما يتوافر له من معطيات تعززه، فالتصعيد الذي ظهرت ملامحه في خطاب قوى عديدة يشي بعزمها الاستمرار فيه والذهاب به إلى حافة الهاوية، والليونة التي يحاول البعض التحلي بها لتفويت الفرصة على الخيار السابق قد تفتح نافذة لتصويب الأوضاع المتدهورة.
وأكدت حصيلة أكثر من عامين من توافق الضرورة في هرم السلطة الانتقالية المكون من مجلسي السيادة والوزراء، أن استمرار التفاهم السياسي عملية صعبة بينهما، واختبر كل طرف قدرات الآخر وعرف مكامن قوته ومواضع ضعفه، ما يعني أن هذه الأزمة مختلفة عن غيرها من الأزمات، فإذا لم يستثمرها الجيش لفرض إرادته التامة قد لا تتاح أمامه فرصة أخرى.يستند كل سيناريو إلى محددات تجعل الوصول إليه سهلة، وكوابح يمكن أن تمنع ذلك، وما يرجح كفة خيار على آخر ما يتوافر له من معطيات تعززه، فالتصعيد الذي ظهرت ملامحه في خطاب قوى عديدة يشي بعزمها الاستمرار فيه والذهاب به إلى حافة الهاوية، والليونة التي يحاول البعض التحلي بها لتفويت الفرصة على الخيار السابق قد تفتح نافذة لتصويب الأوضاع المتدهورة.
جهزت المؤسسة العسكرية المسرح السياسي جيدا لاعتصام المتظاهرين أمام مقر رئاسة الجمهورية، وهي المنطقة التي كانت مُحرمة من قبل عليهم، ووصولهم إليها بسهولة واستقرارهم فيها يفيد بأن هناك خطة تم تجهيزها، فالكثير من الترتيبات التي اتخذت تشير إلى أن السودانيين أمام “اعتصام مصطنع” أو “ثورة مضادة” يتم تجهيزها تريد تحقيق هدفها في استمرار العسكريين على رأس مجلس السيادة، وعدم تسليم رئاسته إلى المدنيين في نوفمبر المقبل.
ويخشى المراقبون حدوث صدام بين المعتصمين الذين أطلقوا تظاهراتهم السبت الماضي مع آخرين ينوون الخروج إلى الشارع الخميس، وكل منهما يحمل أجندة سياسية بعيدة عن الثاني، خاصة أن تدخل أجهزة الأمن حتى الآن بدا لينا أكثر من اللازم، ما يشجع على الاحتكاك المباشر الذي يمثل فرصة ثمينة لفلول النظام السابق للاندساس وسط المعتصمين وتعميق الفجوة بين الجانبين.
وتؤدي حالة الفوران السياسي إلى المزيد من التجاذبات التي تجد فيها بعض الأطراف وسيلة لتعظيم مطالبها وعدم إفساح الوقت للتفاهم الذي استهلكت قوى في السلطة وخارجها وقتا طويلا دون التوصل إليه بما يفضي إلى تهيئة الأجواء للدخول في مربع الجحيم.
ويأتي سيناريو الجحيم من تضخم أعداد المعتصمين من الطرفين وحدوث شغب وفوضى وعنف، وبالتالي وقوع ضحايا، وهي النقطة التي تمثل إعلانا صريحا عن صعوبة السيطرة على الموقف وزيادة حدة التأزم، بما يتيح لقوات الأمن النزول إلى الشارع وفرض حالة الطوارئ، ويصبح الجيش وصيا لاستكمال المرحلة الانتقالية.
يدخل هنا السودان في مربع الانقلاب العسكري بصورة غير تقليدية، ففي ظل السخونة التي يمكن أن تصل إليها الدولة وردات الفعل والمخاطر التي تهدد مستقبلها يصبح استدعاء الجيش فرض عين، وهي اللحظة التي تتشابك فيها الخيوط.
ومن هذه الزاوية يعاد تفكيك وتركيب المشهد بناء على مقتضيات الواقع الجديد ووفقا لتوازنات القوى فيه، والتي لن تحرم فلول النظام السابق من الاستفادة منها، وإعادة عجلة الثورة إلى الوراء، وهو الخيار الذي يعتبره مؤيدو الثورة والجحيم سواء.
فصول سياسية مجهولة
Thumbnail
لن يرضخ هؤلاء لما يترتب عن ذلك من تطورات سلبية، ما يفرض عليهم اللجوء إلى المزيد من التظاهرات التي تقود إلى زيادة معدل العنف، والذي يعد خطرا مع وجود الملايين من الأسلحة في أيدي المواطنين في أماكن مختلفة، علاوة على أن الفصائل التي فشلت السلطة التنفيذية في نزع أسلحة جيوشها وتدشين بند الترتيبات الأمنية في اتفاقية السلام قد تكون مدفوعة إلى إحكام سيطرتها على الأماكن التي تتمركز فيها، وتفتح الباب لفصول سياسية مجهولة في سيناريو الجحيم تتمثل في تقسيم البلاد إلى مناطق نفوذ ويصبح شبح سوريا أو ليبيا غير بعيد عن السودان.
من رحم هذا الشبح يمكن أن تُجبر كل الأطراف على الرضوخ للتفاهم لأن السودان لن يتحمل إعادة إنتاج ما جرى في هذين البلدين ولن يستطيع تجميع أشلائه مرة أخرى إذا مضى سيناريو الجحيم حتى نهايته، لأنه لا يضمن للجيش سيطرة كاملة، ولا يمنح المدنيين فرصة لإدارة دولة سوف تصبح مهشمة، ولن يتمكن الفلول من العودة إلى بقايا حكم بلا هوية سياسية محددة.
ويفرض سيناريو الجحيم على القوى العاقلة في السودان البحث عن صيغة للتفاهم عبر تقديم تنازلات متبادلة، لأنها الباب الوحيد القادر على وقف النزيف الحاصل حاليا.
وتصوير الأزمة على أنها معادلة صفرية بين طرفين عملية تفرض سد جميع الطرق لحلها، وليس العكس، وخسارة طرف في أوضاع مثل السودان لا يجب تصويرها على أنها خسارة للطرف الآخر، وحتى لو كانت النتيجة تبدو كذلك، فمن المهم الانحناء للعاصفة قبل أن تجرف معها كل القوى التي تعتقد أنها ستصبح رابحة في النهاية.
قد يعوّل المدنيون على تدخلات المجتمع الدولي ويتجاهلون أن قواه الرئيسية لم تعد لديها القدرة على هندسة أوضاع داخلية في أي بلد ينجرف بقوة نحو الاقتتال، فالعبرة لدى كثير من الدول بمن يحكم قبضته على السلطة ويتمكن من الإدارة بقطع النظر عن هويته، مدنيا كان أو عسكريا، ما يجعل السودان أقرب إلى سيناريو الجحيم من سيناريو التفاهم والهدوء، خاصة أن المنطقة الرمادية بينهما غادرتها القوى السياسية أو تلاشت على مشجب الأزمات المتلاحقة وفقدان كل طرف الثقة في الآخر.