في هذا الوقت العصيب الذي فقد فيه الكثيرون من هذا الشعب القدرة على التسامي فوق الجراح والأحزان والآلام ومقاومة الكراهية والعنصرية التي زرعها بينهم النظام المخلوع، خرج علينا احد اعيان قبيلة البطاحين ليعفو عن قاتل ابنه الذي هو من أبناء نيالا، الرجل جاء إلى مركز الشرطة الذي يقبع فيه القاتل حاملا معه الطعام يتقاسمه معه ومع كل الحضور، وأن تتقاسم الزاد مع الجاني فهذا له معانٍ عميقة في الإرث السوداني.
تقول القصة إن نقاشا حادا دار بين طالب جامعي صاحب محل تجاري (كشك) وعثمان ابن الشيخ عبد الله بلال انتهى الامر بمقتل عثمان على يد الطالب صاحب الكشك الذي اوقفته السلطات بتهمة القتل العمد واعترف بارتكابه الجرم، ورغم أننا لا نعرف بالضبط ما دار بين الشابين وسبب النقاش ولم تفصح السلطات عن شيء، قد يكون سبب النقاش ليس بالاهمية التي تؤدي الى هذه النهاية ولكن هي الحماقة التي تميز الشعب السوداني، وأن تحلى بقليل من الصبر لمات المقتول كما تقول الحكمة إن صبر القاتل لمات المقتول، واعتقد انه لم يقصد قتله وقع الأمر صدفة واكيد هو الآن غير سعيد بما فعل، وهو احساس سيصاحبه مدى الحياة، ولكن الأمر ليس جديدا ويتكرر كثيرا بين الشباب، وياما أدى النقاش بسبب اشياء لا تستحق إلى ضياع الكثيرين، وكلها خسارة يدفع ثمنها المجتمع.
احتفى السودان كله بموقف الشيخ عبد الله بلال سواء على منصات التواصل الاجتماعي أو على أرض الواقع وملأت قصته القنوات المحلية والعالمية، فقد كان مثار اعجاب الجميع، والحق يقال الرجل اثبت أنه رجل والرجال قليل، كما يقال، وصفه الناس بالشجاعة والكرم والحكمة والقوة التي قلما توجد في هذا الزمن.
ما قام به الشيخ عبد الله بلال في الوقت الحاضر استثناء ولكن قبل ثلاثة عقود كان قاعدة، وهو بهذا أعاد لذاكرة الشعب تاريخا لطالما افتقده كثيرا في ظل النظام المخلوع الذي اعتمد على سياسة التفرقة وزرع الكراهية والعنصرية، ولسوء الحظ ساعدته الأحزاب والحركات بسلبياتها وقصر نظرها وانانيتها وما نعيشه اليوم من حملات مسعورة ما هي إلا حصاد لتلك الردة.
في هذه القضية القاتل من نيالا والمقتول من الخرطوم ومن قبيلتين مختلفتين وذلك لم يمنع والد المقتول من أن يعفو متجاوزا الحاضر بكل سيئاته. وليت أهل دارفور أنفسهم استوعبوا الدرس، فهذا إن حدث في نيالا هذه الأيام لما رأينا مثل هذا التصرف حتى وإن كان الشابان ابناء عمومة لأسباب تعرفونها، وما يجدر الاشارة إليه هو ان دارفور تملك إرثا عظيما في العفو والتسامح وما قام به الشيخ عبد الله من عمل مدهش كان من الأمور العادية فيها.
أنا متأكدة أن الشيخ عبد الله بلال اتخذ القرار وحده ودون أن يستشير أحدا لأنه إن فعل لما تمكن من تنفيذ عفوه ولوجد من يجعل من القضية مصيبة وطنية، وهذا إن دل انما يدل على قوة إيمانه فلم يفكر في غير أجر الله الذي قال (فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ)، ولا يمكن لأحد أن يتخيل كيف سيكافئه الله.
نرجو أن يكون الشيخ عبد الله بلال قد أحيا ما مات في الناس من قيم، وألا تنتهي القصة الجميلة هذه بانتهاء مراسم الاعجاب، ونرجو من أهل دارفور عامة وقبيلة القاتل خاصة تكريم الشيخ، صحيح الرجل عفا لوجه الله ولكنه قدم للجميع درسا عظيما في التسامح وفي أصعب الأوقات ويستحق أن نحتفي به وننحني له احتراما وتقديرا.