ربما يصبح “الفرح” أي فرح فرض عين على كل مواطن سوداني.. ولهذا سعد الشعب كله وهو يرى أهله في بورتسودان وهم يستقبلون أول قطار ركاب منذ 16 سنة.. بأمواج من الفرح الغامر.. لكن بكل يقين لاستدامة الفرح يجدر النظر بعين الاعتبار بزاوية أكبر ، أو بلغة أهل الكاميرا “زووم آوت”.. لتتسع الصورة لرؤية ماهو أكبر من مشاهد الفرح.
السودان عرف السكك الحديدية منذ ما قبل منتصف القرن الثامن عشر، في العهد التركي، ولكن الطفرة الحقيقية جاءت مع وقع أقدام الغازي الجنرال كتشنر الذي استجلب ألفاً من سلاح المهندسين البريطاني فكانوا ينجزون في اليوم كيلومتراً كاملاً من السكك الحديدية.. و يقول العلامة دكتور جعفر ميرغني أن الخط الحديدي الكتشنري لما وصل الضفة الشرقية لنهر عطبرة وأصبح لزاماً الانتظار لحين تشييد كبري عطبرة ليواصل مسيره نحو الخرطوم، أمر كتشنر العمل بالتوازي ببناء الكبري في الوقت ذاته الذي باشر سلاح المهندسين العمل في مد السكك الحديد من الضفة الأخرى إلى الخرطوم.. فكانت المعجزة أنه لما أكمل المهندسون تشييد كبري عطبرة كان الخط الحديدي قد وصل الخرطوم.. أنجز مسوحاته أربعة فقط من المهندسين البريطانيين أكبرهم عمراً لا يتجاوز 29 عاماً..
وتمددت السكك الحديدية في كل ربوع السودان تقريباً حتى مدينة واو بجنوب السودان، وكانت لعقود طويلة الوسيلة المفضلة للسفر ولنقل البضائع.. شريان الحياة الحقيقي للسودان بمستوى عالٍ وراقٍ من الأداء لحد ضبط عقارب الساعة على مواعيد مغادرة ووصول القطارات بدرجات للركاب من الرابعة حتى الأولى ثم درجة النوم مع توفر كافتريا راقية في كل قطار.
تصوروا ؛ أصبح كل ذلك صفحات من التاريخ، النظام البائد لم يكتفِ بتعطيل القطارات بل نزع القضبان نفسها، فمسح الخط الواصل من سنار إلى كسلا.. حتى سكك حديد مشروع الجزيرة لحقها الدمار الشامل..
وبعد 115 سنة من وصول السكك الحديدية إلى ميناء بورتسودان سنة 1906 ، جاء يوم يحتفل فيه أهل الثغر بوصول القطار إليهم!
قبل سنوات بالتحديد سنة 2017 إحتفلت الخطوط الجوية السودانية بوصول طائرتها إلى مطار مدينة الأبيض، “سودانير” التي هبطت بمطار هيثرو سنة 1952، و كانت تجوب الفضاءات العالمية من روما وفرانكفورت وغيرهما.. تحتفل بعد 60 سنة من عمرها بوصولها إلى أقرب مطار من الخرطوم!!
هذه الهرولة إلى الخلف لا تقف عند وسائل النقل وحدها، في كل مرفق تبدو صورة الماضي أكثر إشراقاً من الحاضر.. لماذا؟
بالمنطق الحسابي البسيط يفترض أن نمو وتطور السكك الحديدية اليوم يجعل كل مدن و قرى السودان مشبكة بأفضل وأرخص وسيلة نقل.. وهذا لا يدعم الاقتصاد فحسب، بل الأمن القومي السوداني الذي ما أضر به مثل تباعد المسافات وغياب وسائل النقل السريعة والرخيصة الفعالة..
نحن في حاجة ماسة لدراسة أسباب هذا الفشل حتى نحوله إلى نجاح مبهر..
فليفرح أهل بورتسودان لكن الخبراء يجب أن يجعلوا الفرح مستداماً.. وحقيقياً..