الراى السودانى
استعرضنا بالأمس المواقف في مواجهة لجنة التحقيق المستقلة في أحداث فض الاعتصام 2019.. وخلصنا إلى أن الوثيقة الدستورية هي المسؤولة عن الاستعصاء الناشب في طريق إنهاء اللجنة لعملها.. ولكن قبل ذلك سألنا ما إذا كان المطالبون بحل اللجنة قد وقفوا على ما أنجزت.. وما تبقى لها ولماذا..؟
وسنركن اليوم إلى الوقائع والنصوص فقط.. للإجابة على تلك الأسئلة.. ولنبدأ أولاً بتسليط الضوء على ظروف نشأة اللجنة وما اعتور بداية عملها من تعطيل.. بدأت اللجنة عملها بالبحث عن مقر تزاول منه نشاطها.. والمنطق يقول إن لجنة بهذه الأهمية وهذه الخطورة؛ كان المفترض أن يصاحب قرار إنشائها مباشرة؛ قرار آخر بتخصيص مقر يراعي طبيعة عملها أولاً.. فهي لجنة منفتحة على استقبال الآلاف من الأشخاص لأغراض التحقيق وجمع المعلومات.. كما ثبت لاحقاً.. وفي ذات الوقت، بدرجة عالية من السرية والتأمين.. والأمان للمترددين عليها.. فما الذي حدث..؟ خصصت للجنة مقر شرق الخرطوم.. وبغض النظر عن أي شيء آخر.. فقد وقعت اللجنة ومقرها ضحية؛ إغلاق الطرق المؤدية إلى القيادة العامة.. فقد كان حراك الشارع عالياً في ذلك الوقت، ورد فعل القيادة العامة كان معروفاً أيضاً.. بدا الأمر وكأن اللجنة يلاحقها قدر تكليفها دوماً.. أخذ الأمر وقتاً طويلاً من زمن اللجنة، ومن زمن عملها.. حتى تمكنت من الانتقال إلى مقر آخر.. وكأن عقارات الحكومة؛ ذات التأمين العالي؛ في طول الخرطوم وعرضها قد عقمت.. لتخصص الحكومة لهذه اللجنة المهمة؛ عالية السرية والخطورة؛ عقاراً مصادراً خارج مدينة الخرطوم..!
ورغم هذه الظروف الموضوعية المعيقة، نجحت لجنة التحقيق في مقابلة نحو ثلاثة آلاف شخص، يتراوحون بين الشهود والمتهمين المحتملين.. ولأن فض الاعتصام لم يكن في الخرطوم وحدها؛ إذ تزامن الأمر في عدد من الولايات، فقد نجحت اللجنة في زيارة أكثر من نحو ثماني ولايات، ومقابلة مئات الأشخاص، ومعاينة المواقع وجمع الأدلة.. تماماً كما فعلت في مقر الاعتصام الرئيسي.. إلى جانب استلام آلاف المستندات والوثائق؛ وفحصها وتحليلها وتقييمها وتصنيفها؛ والتقرير بشأنها..
وبين هذا وذاك، لن نذيع سراً أن اللجنة في عملها ذاك قد لاقت الأمرين، فمن يتصور أن التحقيق أو الاستجواب كان يمضي بسلاسة فهو مخطئ ولا شك، فثمة من انهار تحت ضغط الأسئلة والحصار.. وثمة من انهار تحت ضغط الذكريات، حين استدعي مشهد الميدان وحصار الجنود وانهمار الرصاص والضحايا من حوله يتساقطون.. فكانت اللجنة تنتظر بالساعات لتستعين بمعالجين نفسيين.. يعيدون هؤلاء وأولئك.. إلى وضع يمكنهم من تقديم إفاداتهم..!
ثم نصل إلى مربط الفرس، إلى حيث العقبة التي توقف عندها حمار نبيل أديب ولجنته؛ عاجزين عن عبورها حتى اليوم؛ بسبب النص الدستوري المقيد.. فالبند 16 المادة 8 الفصل الثاني من الوثيقة الدستورية تنص على (تشكيل لجنة تحقيق وطنية مستقلة بدعم إفريقي عند الاقتضاء لإجراء تحقيق شفاف ودقيق في الانتهاكات التي جرت في الثالث من يونيو 2019 والأحداث والوقائع التي تمت فيها انتهاكات لحقوق وكرامة المواطنين مدنيين أو عسكريين على أن تشكل اللجنة خلال شهر من تاريخ اعتماد تعيين رئيس الوزراء وأن يشمل أمر تشكيلها ضمانات لاستقلاليتها وتمتعها بكافة الصلاحيات للتحقيق وتحديد المدى الزمني لأعمالها)، ثم جاء قرار تشكيل اللجنة الصادر من رئيس الوزراء ليفسر ويعزز النص السابق ملزماً اللجنة في باب الأحكام العامة بـ (طلب العون الفني من الاتحاد الإفريقي عبر وزارة الخارجية).. والاتحاد الإفريقي فقط لا غيره.. وجدت اللجنة بين يديها حوالى ثلاثمائة مقطع فيديو، تتراوح من دقيقتين إلى ساعتين، تحتاج إلى دعم تقني لعرضها وتحليلها والوقوف على تفاصيلها وقراءة محتوياتها، ومن ثم تقييمها قانونياً.. فخاطبت الاتحاد الإفريقي الذى اعتذر بعد (جرجرة طويلة).. والمفارقة أن الحكومة؛ وبجلالة قدرها تستعين بالأمم المتحدة عبر بعثة يونيتامس لإنجاز مهام الانتقال.. ولكنها تحجب هذا العون عن اللجنة، وفيما لا يزال النص الدستوري قائماً، وفيما أبلغت اللجنة الجهة المختصة، وفيما لم يحرك أحد ساكناً حتى الآن، يبقى سؤال للجنة: لماذا لم تخرج حتى الآن على الملأ، لتبلغ أصحاب المصلحة الحقيقيين، بالموقف الحقيقي..؟!
ونمسك عن كثير.. لسرية التحقيق..!!!