الراى السودانى
(1)
تفتحت ذائقتنا الغنائية الفنية على أغنية ما بعد الحقيبة اي من إبراهيم الكاشف الى مصطفى سيداحمد مرورا بأحمد المصطفى وعبد العزيز محمد داؤد وسيد خليفة وإبراهيم عوض ووردي وصديق عباس والجابري وحمد الريح وزيدان إبراهيم وغيرهم من ذلك العقد النضيد الذي سلف، ونسأل الله ان يطيل في أعمار من تبقى منهم، ونشهد أن هذا الجيل من المغنين قد ستفنا نحن الأجيال التي تلقت منهم طربا وشجنا ولم يحوجنا الى البحث عن مغنين آخرين عربا كانوا أم عجما، بعبارة سياسية قد حققوا لنا الاكتفاء الذاتي من الغناء، ولصديقنا عادل الباز قولة مشهورة في هذا فحواها أن الأجيال التي سبقتنا لم تترك لنا ما نشكرها عليه لا في السياسة ولا الاقتصاد، اللهم إلا في الغناء وبألفاظ أخرى قال جيلنا هذا لم يجد في السودان المبشتن هذا إلا الغناء السمح.
(2 )
سنة الله في الكون اقتضت أن يرحل هؤلاء عن دنيانا الفانية واحدا تلو الآخر ويتركونا بعدهم لنلحق بهم آجلا أو عاجلا وتبقى المشكلة هنا في هذه المساحة الزمنية بين الرحيل والرحيل من يملأها لنا فنيا ؟ كنت أظن وليس كل الظن إثما ان هؤلاء الراحلين قد تركوا من الزوادة ما يكفي، أي كل ما قدموه من غناء سيظل موجودا صورة وصوت نتلقفه عندما نجده هذا اضافة للأجيال الشابة من الفنانين التي تتغنى بغنائهم بعبارة أخرى كنت أعزي نفسي بأن هؤلاء الراحلين من المبدعين قد أكملوا مشاريعهم الفنية لاسيما وأن عددا كبيرا منهم كان قد توقف عن تقديم الجديد قبل رحيله بعدة سنوات، وكانوا يجترون ما قدموا، وكنا نسعد بهم كلما أطلوا علينا، وفسر أحد النقاد ذلك ان الفترة م 1960 الى 1985 أي في الربع قرن من الزمان قدم فيها غناء كثير جدا لم يسمع كله أي لم يجد ذلك الكم من الغناء نصيبه من الذيوع اللهم إلا بعض الأغنيات، فظل رصيدا أخذنا نتناول منه في العقود الأخيرة عندما جفت منابع الإبداع الغنائي لأسباب موضوعية اللهم إلا من بعض الفلتات.
(3 )
كل القنوات السودانية تقريبا في رمضان تكثر من الغناء، وكل الغناء المبثوث فيها هو غناء تلك الفترة المشار إليها أعلاه، اللهم إلا النذر اليسير. ففي رمضان كلما أنخنا الريموت عند قناة سودانية، نسمع من الشباب وردي وإبراهيم عوض وزيدان وغيرهم، نعم هناك شباب يؤدي أداء جيدا لتلك الأغنيات القديمة لكن تبقى المشكلة في أننا من الأجيال لم تعد الأغنيات لديه مجرد منجز إبداعي بل أضحت تعج بالمحمولات الخاصة من ذكريات ومواقف، فمثلا عندما استمع لأغنية (في الليلة ديك) يمر في ذهني شريط ذكريات يبدأ من أول مرة سمعتها فيها ومن كان معي من الأصدقاء ونحن في المرحلة الثانوية، وأول مرة سمعتها من زيدان مباشرة في نادي الطلاب وشاعرها الذي لم تغن له غيرها، وصديقنا الذي وسط زميلة له لتخطب له زميلة أخرى فقالت له (والله إلا أكان عاوز تكون في الليلة ديك أغنيتك المفضلة)، فأسرح مع صوت زيدان الشجي وأدائه المميز فأنظر الى الشاشة فأجد أن الذي يغني فيها شاب آخر وليس زيدان فيرتج شريط الذكريات وتتحول الى أغنية أخرى غير التي في وجداني فاستدعي زيدان وأبكي لرحيله من جديد فأشعر انه قد ترك فراغا لن يملأه غيره . عليه أنصح جيلنا بسماع الغناء من الإذاعة فقط.
صحيفة السوداني