الراى السودانى
(1 )
من عادتي إذا رحل قريب او حبيب لي كان بيني وبينه اتصال تلفوني، ألا أمسح اسمه من ذاكرة التلفون حتى ولو أخذ هاتفه أحد أفراد اسرته واستعمله سيظل رقم الراحل موجودا في تلفوني، ولكن كنت ومازلت لا أجرؤ على الاتصال بالرقم لأنني أخشى الحالتين لو كان مقطوعا أو مستعملا، ففي الحالتين سوف يقلب علي المواجع والأحزان منفردا في الحالة الأولى – حالة كونه مقطوعا- أو مع آخر في الحالة الثانية حالة كونه مستعملا.
(2 )
كان عدد الأسماء الراحلة في هاتفي قليلا نسبيا الى رمضان الماضي، ولكن تضافر جائحة كورونا مع العوامل العادية زاد العدد بمعدلات كبيرة ومازال كل يوم في ازدياد، فكان آخرهم السيد المصرفي والمالي والإعلامي الكبير عبد الرحيم حمدي الذي لم التقه في حياتي إلا مرات معدودة، ولكنني كنت كثير الاتصال به لآخذ المعرفة منه في مجريات الأمور الاقتصادية، فكان من مصادري الهامة في برنامج سبت أخضر الذي كانت تبثه قناة النيل الأزرق ، ومازلت أذكر نصيحته بان يهتم البرنامج بالمنتجين الصغار لأن المنتجين الكبار لديهم قنواتهم الإعلامية التي تخدم مصالحهم . الراحل عبد الرحيم لمن لا يعرفه كان اضافة لخبرته العميقة والطويلة في مجال المال والاقتصاد، كان ذا حس إعلامي متقدم، فهاهو يرحل ويترك رقم هاتفه ليبقى في هاتفي ما بقيت ومابقي هذا الهاتف، رحمه الله رحمة واسعة .
(3 )
في ذات مرة اتصلت بي وعن طريق الواتساب ابنة أحد الأصدقاء الأعزاء الذين رحلوا في رمضان الماضي من هاتفه، فاعتذرت قائلة انها أصرت على ان ترث هاتف والدها . وفي تقليبها لمحتويات الهاتف من رسائل وتغريدات توقفت على ما كان يدور بيني وبينه من رسائل واتسابية جادة وهازلة، فلحظت بان البساط بيننا كان أحمديا والكلفة مرفوعة للآخر فقرأت كل ما كان يدور بيننا فبكت كثيرا وضحكت كثيرا وتأثرت كثيرا –هذا على حد قولها- واستطردت قائلة إنها احيانا تحس بالذنب إذ شعرت بانها تجاوزت حدودها وتسورت ما كان ينبغي لها ألا تتسوره وليشفع لها انها فعلت ما فعلت بدافع المحبة لوالدها ولكنها تطلب مني السماح لأنها تدخلت في شأن يخصني دون قصد منها، فما كان مني بعد قراءة رسالتها إلا ان نحيت الواتساب جانبا واتصلت بها مباشرة وبعد أن فتحت الخط بكينا كثيرا وصعب الكلام بيننا . وفي المساء اتصلت بي وبصعوبة شديدة تكلمنا قليلا فسألتها عن حالها وحال بقية الأسرة . والحال كذلك رجعت للواتساب وكتبت لها معبرا عن سعادتي بتواصلي معها ولكنني نصحتها بان تترك هاتف والدها نهائيا ولاتطلع على مراسلاته الخاصة وإن كان لابد من استخدام الهاتف يجب ان تمسح كل الرسائل الموجودة فيه لان معظمها لا تعنيها في شيء والعلم بها قد لا يفيد كثيرا . لقد وافقتني على رأيي وقررت الاحتفاظ بالهاتف كما هو وقد تفكر مستقبلا في استخدام الرقم لانه رقم مميز.
(4 )
هكذا ستظل أرقام هواتف الذين رحلوا من الأحباب مثل شواهد القبور على هاتفي أتأملها وأتصفح رسائلهم كي يتكثف في دواخلي الحزن النبيل ويصعد في روعي بؤس هذه الدنيا الفانية ، فكل يوم يمر ويرحل عزيز يشعرنا بان الدار الآخرة أصبحت أكثر ثراء بالأحباب من دار الفناء، وان الانتقال اليها سيكون رحلة من دار أحباب الى دار أحباب. فاللهم تقبل الذين رحلوا إليك وأسكنهم في عليين مع الشهداء والصديقين والأبرار.
صحيفة السوداني