العين الثالثة
ضياء الدين بلال
فساد (البشاكير والسِّفنجات)!
-١-
بزيارةٍ واحدة لدار الوثائق، وقضاءِ ثلاث ساعاتٍ بين مجلدات الصحف، ستكتشفُ حقيقةً مُذهلةً!
غالب ما يحدث اليوم، حَدَثَ أمس، وربما قد يحدث غداً.
وحتى تتأكَّد من حالة الثبات والانغلاق على مواضيع وقضايا مُحدَّدة، قُم بتغطية التواريخ والأسماء في تلك الصحف.
واختبر نفسك أو غيرك في أيِّ عهدٍ أو عام صَدَرَ هذا العدد من الصحيفة؟!
ستجد صُعُوبة في إيجاد الإجابة الصحيحة؛ العناوين مُكرَّرة والقضايا ثابتة، فقط تتغيَّر المواقف بتغيُّر المواقع.
-٢-
ستجد بعض الأجيال المُعاصرة وغير المُطّلعة على تاريخنا السياسي، صُعُوبةً في تصديق ما سأذكره الآن.
عقب انقلاب مايو، بشراكة يسارية بين الشيوعيين والقوميين العرب، اتّخذت قرارات خطيرة لا تزال آثارها التدميرية مُستمرّة إلى يومنا هذا.
مايو في حالة هياجها الثوري وتقليدها الأعمى للتجربة الناصرية، قامت بتأميم أهم مُؤسّسات القطاع الخاص.
ونصبت منابر ثورية ولجان تحقيق، لمحاكمة رموز النظام الديمقراطي المُنقلب عليه.
-٣-
كانت المحاكمات السياسية التجريمية يتم بثها على الإذاعة والتلفزيون وتجد مُتابعة ومُشاهدة عالية.
تمّت مُحاكمة إعلامية للقطب الاتحادي الكبير أحمد السيد حمد، لمنحه شخصاً رخصة استيراد (سفنجات) لمُؤاخذة!
وحُوكم القيادي الاتحادي البارز الأستاذ عبد الماجد أبو حسبو، على ميزانية استقبال كوكبة الشرق أم كلثوم!
وشكّلت لجنة برئاسة الأستاذ محجوب محمد صالح وعضوية الدكتور محمد سعيد القدال وخاطر أبو بكر، لمُساءلة الأستاذ علي محمد شمو مدير التلفزيون وقتذاك!
اتهم البروف’ اً علي شمو بالفساد…!
(عارفين بروف علي شمو أفسد في ماذا؟!!!).٠
فساد مدير التلفزيون في العهد الديمقراطي – المنظور من قِبل اللجنة – كان عن عدم إرجاع (بشاكير) إلى الفندق الكبير!
نعم، بشاكير (مناشف الحمام) لمؤاخذة، أُخذت من الفندق الكبير، للوفد الألماني الذي حضر لتركيب محطة تلفزيون ود مدني!
بعد انتهاء مهمة الوفد الألماني، لم يتم إرجاع ثلاثة (بشاكير) الى الفندق، أخذ ذلك كذريعة مسرحية لمُساءلة مدير التلفزيون واتهامه بالفساد!
-٤-
في انقلاب ٣٠ يونيو ١٩٨٩م، تمّت مُحاكمة الشيخ الجليل، عضو مجلس السيادة، إدريس البنا في قضية فساد وهمية، تقع ما بين (السفنجات والبشاكير)!
وفي الحقبة الإنقاذية، تمّت حملات مُصادرات واسعة لممتلكات قيادات سياسية بارزة، وتم فصل الآلاف حسب بطاقات الانتماء السياسي.
وما إن تتم المُصالحات والتسويات السياسية في كل مرةٍ، تضطر الحكومات لتقديم تعويضاتٍ باهظة من خزينة الدولة للمُتضرِّرين !
-٥-
استخدام ذرائع قضايا الفساد لتصفية الحسابات السياسية وتشويه سُمعة الخُصُوم، سلوكٌ قديمٌ ومتكررٌ في السياسة السودانية، مارسته الأنظمة المتعاقبة، شمولية وديمقراطية!
هذا لا يعني عدم وجود فساد في كل تلك الحقب، ولكن حقن الوقائع بهرمونات السياسة هو ما يفسد قضايا الفساد الحقيقية.
السياسيون كثيراً ما يبتذلون قضايا الفساد في حملات كيدية انتقامية، تبدو أقرب للسذاجة والعبط والحماسة المُتهوِّرة!
صحيحٌ، غالباً ما تجد تلك الحملات تعاطفاً جماهيرياً واسعاً، ولكن مع الأيام تكتشف الجماهير أنها تعرّضت لعمليات خداع بصري!
-٦-
الفساد لا يُحارب بطرقٍ فاسدةٍ وعبر أيادٍ غير نظيفة وبإجراءاتٍ شائهةٍ!
الفساد يُحارب عبر المؤسسات العدلية والقضائية الطبيعية، لا عبر اللجان السياسية المُتشنِّجة ، المشكلة من الخصوم!
اختزال قضايا الفساد في دائرة الخُصُومة السياسية، يُتيح الفُرصة واسعةً لهروب كبار الفاسدين، العابرين للأنظمة المُتعاقبة (ناس كل حكومة)!
حينما تفتقد مشاريع مُحاربة الفساد والتعامُل مع أصحاب المال كل تلك المزايا العملية والأخلاقية، تخلِّف في العادة خسائر وأضراراً فادحةً بالدولة!
-٧-
قانون التأميم ومُحاربة الفساد في مايو اليسارية، أسهم في هروب رأس المال الوطني والأجنبي إلى الخارج.
الآن مُمارسات لجنة التمكين الطائشة، لن يجني منها الوطن خيراً، بل ستخلف خسائر بالاقتصاد أفدح من قانون التأميم ١٩٧٠م!
-٨-
ما بين ادّعاء اللجنة وإنكار وزارة المالية، ستتعطّل أعمال الشركات والمُؤسّسات المُصادرة لتصبح غير ذات فائدة، وستضطرب المُعاملات المصرفية، وستنهار كثير من البنوك، لأن معظم تلك الجهات تعمل بمالها!
والمُصادرات الجزافية سترعب كل رجال المال والأعمال، حتى غير المُستهدفين بالإجراءات.
فرأس المال بطبعه (جَبَانٌ) يخشى المُفاجآت ، ولا يأمن على نفسه بيئة لا تحمي الملكية الخاصّة بالقانون، ولا تُراعي قيم العدالة.
– إخيراً –
مُحاربة الفساد ضرورية في كل الأنظمة، ولكنها تحتاج حكمةً وذكاءً ووعياً وحصافةً، وقبل ذلك استقامة أخلاقية، حتى لا تُلحق أضراراً بالدولة وظُلماً بأبرياءٍ، وتفتح الباب أمام فاسدين جُدد!
صحيفة (السوداني)
The post ضياء الدين بلال يكتب: فساد (البشاكير والسِّفنجات)! appeared first on باج نيوز.