السودان اليوم:
حاولت أن التزم بوعدٍ قطعته على نفسي مع قرائى ومتابعى الكرام أن يكون مقال الجمعة من نوع [المفاريك الباردة] التى لا تُسبب عُسر الهضم وبعيده عن ملحٍ السياسة وقد وفقتُ فى ذلك والحمد لله لفترة ليست بالقصيرة ولكن مقال الجمعة الماضية كان مُغايراً ولم أنتبه الا فى وقت مُتأخراً من أمسية الخميس مما أجبرنى أن أستعيض عن المقال الاجتماعى بآخر سياسي من نوع (القطر قام) دفعتُ به للصحيفة فى وقتٍ متأخر فوصلتنى عُدة كُروت حمراء من قرائي الكرام يوم الجمعة الماضية يستنكرون علىّ خُلف الوعد . أسعدتنى كُروتهم كثيراً و طأطأتُ رأسي أمامها اعتذاراً وتقديراً لهم
كيف حالك يا الصمد
زي الزفت وما عايز معاك كلام
ياخ أنا بسلّم عليك
ما تسلم علّى ياخ .. تسلم علىّ ليه يا بطّال
بطّال أنا يا الصمد ؟
أيوا بطّال و زي الزفت ! أيوا أنت زيّ الزفت
كان هذا أحمد ابراهيم بشير الشهير (بالصمد) يردُ على تحيتى له عندما كان يهمُ بدخول برندة دكان بابكر الحليبى بفريق العلقماب ليملأ (حُقّة) التمباك فى مشواره الصباحى فى طريقه للجزارة قادماً من قريته ود بلال فى مشواره اليومي للجزارة . لا أحد من أهل العيكورة كان لا يعرف (الصمد) كان يأتى صباحاً يرتدى مريلة الجزارين ومعه سكين يُتقن لفّها وحفظها و يحمل عصاً هى أقرب الى نصف (العُكاز) منها الى العصا الكاملة يُحليها (بضبّة) جلد من ذيل العجول ، يبقى بالجزارة يُساعد الجزارين فى أعمال الذبح وتقطيع اللحم حتى ينفضُ سامر السوق فيعود وقد حمل من طيبات اللحوم و(العِكو) والكوارع بمخلأته بما أعُطي جراء عمله من عرق جبينه ، لم يُعرف عنه سُكراً ولا سفاهة و لم يكن عدوانياً بل كان مُسالماً ( يمشى فى حاله) كما يُقال رغم أنه كان ليس على كامل عقلٍ سويٌ كما سائر الناس فتارة يكون ذو مزاجٍ رائق يتحفك بالكلام الموزون وبعضاً من قريض الشعر الأخضر وتارة يرتفع صوته لأبسط الأسباب مع من يحادثه أو يُحاول استفزازه أو حتى من غير أن يُستفز ، كان له راحة وتواجد شبه دائم بعد (الجزارة) بدكان ابراهيم ود حاج البشير الشهير ب (ابراهيم جان) و لعله يجد راحة نفسية وتقديراً منه لا تخلو من المُخاشنه فكان دائم الجلوس والتواجد معه ببرندة الدكان يؤانسه ويضاحكه ويؤاكله ويختصمان فى ذات الجلسه ، يقضى له بعضاً من (المراسيل) البسيطة وأذكر أن أكثر ما كان يثير حنقه على إبراهيم جان ويفقده هُدوءهُ عندما يقول له الاخير أنا أبوك بإعتبار أن إسمه أحمد إبراهيم فيقول له أنت أحمد وأنا إبراهيم وهذا يعنى أننى أبوك هكذا كانت تبدأ المعارك الكلامية قبل أن تتطور بينهما فما بين عبارات إبراهيم الهادئه الضاحكة وثورة (الصمد) العارمه يتوقف كل من يمر بالدكان ليستمع للحوار والشتيمة التى تطال حاج ابراهيم من الصمد و قد كنتُ شاهداً على إحدى تلك المعارك اليومية و أذكر أن إبراهيم جان كان لا يلجأ لبدء النقاش إلا بعد أن يُجرده من العصا والسكين بحيله بهدوءه ويضعها فى مكان آمن داخل الدكان ثم يبدأ الحوار هادئاً بينهما قبل أن ينتقل لمرحلة الصياح وخبط أرضية البرندة بكف الصمد يدعم بها دفوعاته ثم ينتهى هادئاً كما بدأ بإستلامه لعصاهُ وسكينه وبما يُكرمه به ود حاج البشير فقد كان رجلاً كريماً يعشق المزاح ويجالس الضُعفاء والمساكين اللهم أغفر له و أرحمه رحمةً واسعه .
ما كان (الصمدُ) يسألُ الناسُ مالاً ولكن إذا أعطي أخذ وإذا دُعى الى مناسبة يأتى فيستطعم ثم ينصرف فى هدوء يستمع الى الناس ولا يُشاركهم حديثهُم إلا أن يُستفز ولكن فى الغالب يكون ملتزماً للصمت ، لم نسمع به آذى أحداً أو أن أحداً قد آذاهُ فكان مثاراً للشفقة والرحمة والحب من الكبار والصغار ، فقد كان من خلق الله الذين رزقهم العقل المتواضع و لكنه لم يكن (مجنوناً) ولا من ذوي الاحتياجات الخاصة أو قد يكون من الذين رُفع عنهم القلم فعبروا هذه الدنيا كالولدان لا أحد يعلمُ أقدار الله فى خلقهم وله فى خلقهم شؤون سُبحانه . يُقال أن (البروف) عبد الرحيم على بلال قد أوجد له عملاً بعيادته بود مدنى وعاش آخر أيامه مُتهندماً أنيقاً مُدركاً لما حوله لا أدرى كم عاماً ظل يعمل فقد حالت بيننا سنوات لم أراهُ بعد أن توقف عن الحضور اليومى للعيكورة فلربما أقعده الكبر أو المرض او العمل الجديد لا أدري تحديداً متى إنقطع عن شوارع القرية حتى غادر دنيانا الفانية الى رحاب ربه و لنا معه مصاهرة فهو عمٌ لأبناء عمتى عز الدين وسعاد وعرفة . اللهم أغفر له وأرحمه وأجعله من الذين يدخُلون الجنة بغير حسابٍ ولا سابق عذاب .
The post أحمد الصمد بريقٌ خاطف.. بقلم العيكورة appeared first on السودان اليوم.