الذكرى الخامسة لرحيل الفيتوري الفيتوري … عريانٌ يرقصُ في الشمسِ : في زنجيته وغربته، كان الفيتوري ضائعاً، بلا هوية، بلا وطن، يستشعر اللامكان وطناً له، كان لونه حداً فاصلاً بينه وبين العالم، والدماء التيتجري في عروقه تشده إلى غير وطن معروف، حيث لا هوية فهو عربيٌ ليبي، وسودانيُ ، مصري، وهو الزنجي ربيب الغابات، وحقول الكاكاومجرداً من أي إضافات … هذا اللهب الشعري الثائر خرج من غابات إفريقيا تلك القارة التي تحيط بها ظلمات الجهل و آفاق الاستغراب. فيزيارتي للمغرب في صيف 2012 لم يصرفني عنفوان وعراقة المدن المغربية مراكش و أقادير و الدار البيضاء عن زيارة الشاعر محمدالفيتوري في في ضاحية سيدي العابد بالقرب من “تمارا” التي تتكئ في هدوء على ساحل المحيط الأطلسي على بعد بضعة كيلومتراتجنوب الرباط العاصمة الإدارية للمغرب في بيتٍ جميلٍ رائع يتنسم شعراً ويستنشق رائحة المحيط الأطلسي جلس الفيتوري على الكرسيوهو متعب ، بدأ واضحاً أنه يغالب آلامه اعتلت على وجهه ابتسامة عريضة عندما رأي صغيراتي إيلاف و أسيل حاول جاهداً عندما اقتربتمنه لألقي عليه تحية السلام أن يعبر عن وجوده وحضوره العقلي و البدني. محمد مفتاح رجب الفيتوري الذي صنع جزءاً من وجدان الشعب السوداني، وجدته في زيارتي له في صيف 2012 نصف مشلول في دارهبعد أن أصيب قبل مدة بجلطة دماغية نتج عنها توقف يده اليمنى عن الكتابة يعيش بنصف ذاكرة ونصف هوية سحبت منه ليبيا الثوار الجوازالقذافي بعد أن عمل فترة طويلة في سلكها الدبوماسي يعيش بلا مورد، يجتر أحزاناً، يتعايش مع الآلام بنصف ذاكرة . يقتات شعرا ترتله لهزوجته المغربية (رجات أرماز) يسكن فيلا أطلق عليها إسم أبنته ” أشرقت” ذات الخمسة عشر سنة أنذاك. يعيش بعد أن أقعده المرض في ضاحية سيدي العابد بالقرب من الرباط يناجي البحر بهمسٍ وصمت بعد أن فقد النطق، علاقة محمدالفيتوري مع البحر قديمة منذ أن أمضى طفولته في الإسكندرية ، دخل البحر قاموسه الشخصي والشعري. الفيتوري الوجه الأبنوسي الذي نسجته الأقدار ليدخل دائرة التاريخ شاعراً، مُلهما ودبلوماسياً محنكاً نشأته ورحلته الطويلة مع الأدبوالسياسة والصحافة جعلته “شاعر التخوم” لا ينتمي إلى وطن ، فهو يقيم على تخوم الخريطة العربية والأفريقية، وعلى تخوم العروبةوالزنوجة فهو لهيب من الدم العربي الصحراوي المكهرب بقضايا أمة مازالت في حالة موت سريري منذ نصف قرن ليشكل الفيتوري بذلكحالة فريدة من الانتماء للونين مختلفين وتاريخين يصعب المزج بينهما. دنيا لا يملكها من يملكها أغنى أهليها سادتها الفقراء الخاسر من لم يأخذ .. ما تعطيه على استحياء والغافل من ظن أن الأشياء هى الأشياء. هنا ندرك أن سر هذه الحرارة في قصائده التي يشكل فيها التصادم والعناد والصرخة إيقاعًا يكاد يكون منتظماً، هي بسبب الجمرةالأفريقية في دم الفيتوري التي مازالت متقدة تلتهم عواطفه وتثور معها أحاسيسه مع مأساة انتعال ذلك الجسد الأفريقي كما عرتها روايةالجذور. عاش الفيتوري فترة “فراغ إبداعي” منذ أواخر التسعينيات، وكغيره كانت الإحباطات السياسية والهزات التي شهدتها الساحة العربية سبباًرئيسيا لذلك إضافة إلى المرض الذي أصابه.انحسرت الأضواء عن الشاعر السوداني محمد الفيتوري بسبب ما نعانيه من اختلال فى القيمالجمالية واضطراب فى موازين الحياة، ولم تعد وسائل الإعلام تذكره إلا بإشاعات عن وفاته إلا أن وافته المنية ، علماً بأن الشعراء لا يموتون. في رحلة عمره وجد الفيتوري نفسه مثل عصفور غريب يتنقل من غصن الى غصن، ، لا يعرف أين هو بالضبط. أحياناً في الاسكندرية، حيثمراتع الصبا. و تارةً في القاهرة حيث نقطة الإنطلاق في عالم الشعر الفسيح و أخرى في الخرطوم في ستينيات القرن الماضي حيثذكريات درب القمر و المفكرة الريفية وصناعة القلم وبيروت في ثمانينات القرن الماضي حيث العمل الدبلوماسي والمناورات السياسية و أخيراًالرباط التي جاء إليها في منتصف الثمانينيات، لتصبح أخر محطة تتوقف فيها مسيرة شاعر مارس التمرد و الإبداع في آنٍ واحد حتىوافته المنية . في زيارتي له أهداني ديوانه الجديد الذي حمل عنوان “عريانٌ يرقصُ في الشمسِ” وهو آخر عمل فكري له نجده يرقص عرياناً في رسالةاستهزاء بكل تابوهات الوجود في هذا الديوان الجديد الذي يشكل بُعداً خياليا واسعا بدءاً من الرقص إلى استخدام مفردة الشمس معالعري من مبدع تجاوز السبعين من عمره. بعد رحلةٍ إبداعيةٍ طويلة، إنتقل الفيتوري إلى جوار ربه وهو يتنفس شعراً ، فقد كان مبدعاً ملتزماً بالمعنى الإنساني للكلمة ومناضلاً ومنحازًاللإنسان أينما كان، وشاعر أفريقيا العربي بجدارة. الفيتوري الذي حمل إلى عاصمة المغرب غربته الكبيرة وأناخ قصيدته هناك. وانطبع شعره في العديد من الأماكن التي ارتحل إليها حتى أصبح يشبه قصيدته “معزوفة درويش متجول”. بقلم طه يوسف حسن ، جنيف tahaglobalmedia@gmail.com
The post الفيتوري … عريانٌ يرقصُ في الشمسِ appeared first on صحيفة الراكوبة.