غير مصنف

السودان: العيكورة يكتب: من مدني لي سنين

الانتباهة اون لاين موقع اخباري شامل

بقلم: صبري محمد علي (العيكورة)

عندما كان منصور أحمد حمد النيل يُحيي ليالي الأعراس بالعيكورة و القري المُجاورة كانت أغنية (يا شباب مدنى) لا تغيب عن كل ليلة ، ذات الايقاع السريع الراقص وهى ترسمُ صورة للمدينة الزاهية يبثُ فيها حنينه لمدني الساحرة (من مدني ليّ سنين يا شباب مدني من قبل كُبري الصين يا شباب مدني) فكُلنا كان يتمنى أن يزور مدنى و سوقها و مبانيها وأن يعود ظافراً ب (شارلستون) وقميص (تحرمنى منّك) وقد إبتسمت لنا الايام لكل هذه الامنيات الجميلة لاحقاً فأحببنا مدني .
لا أظُنُ أحداً من أهل قُري (الظلط) كان لا يعرف عم (حُميدة) الكُمسنجى بالسوق الصغير حيث ينتهي المسير ببصات ابوعشر والحصاحيصا أما بصات الخرطوم والكاملين فكان موقفها بجوار الاستاد شمالاً قليلاً وتمتاز بالفخامة والسلالة الحُرّة من (النيسانات) واكسبريس عزُوز . كان حُميدة رجلاً ضخماً مربوع القامة به قصرٌ ناصع بياض الثياب والعمامة جيبة الأمامي مثقلاً ب (حقة ) التمباك ، يلبسُ نظارة طبية يجلس داخل البص هو من يستجلب الركّاب . حركة الناس راجلين وراكبين مع كل ما يدُب على الأرض من أليف الأنعام و الأحصنة والكوارو ، أكشاك الزنكى المُتراصة فى صفوف تُثير إعجابنا كانت مُتنوعة الأنشطة خلاطات عصير الفواكهة وحِلل القوُز الضخمة وروائح الشواء وقُدورِ الفول و طبالى (الآقشيه) يتحركُ بها الباعة ومثلها للطعمية والبيض المسلوق يُبيعُونها على أوراق الجرائد القديمة و طبلياتِ أخري تُبيعُ الباسطة والحليب الساخن ، (الشاي المنعنع) يُصيح شاباً حاملاً الكبابي و(كفتيرا) على (كانون) جمرٍ يحمله مُتدلياً بمقبض سلكٍ ملفوفٍ بقماشٍ . وصينية و كبابي باليد الأخُري ، مادحٌ يفترشُ الأرض ينقرُ طارهُ يتابع ما يدره عليه شالهُ المفروش على الارض من نُقود المُحبين لمديح المُصطفى صلوات ربي وسلامة عليه ، غانية تتمخترُ مزهُوةٌ بجسمها المُمتلئ وثوبها الشفاف يوم لم يكُن للفستان حَداً للإنحسار تُطاردُها نظراتُ العابرين ، جمعٌ تحلقوا حول صحيفة مُنهمكون فى حلّ مُسابقة (توتو كوره) نوعٌ من الميسر كان تحت رعاية حُكُومة نميري فى بواكيرها كما بيوت البغاء ، نشّالٌ يُهرولُ جارياً بعد أن طالت يده جيبُ الضحيّة تطاردهُ الصيحات واللّعناتُ والحجارة ، سكرانٌ يترنحُ منظرٌ إعتادهُ الشارع يبتعدون عنه ويجدون له العذر بقولهم (الزول طاشم) فيجلسونه برفق . ورشُ ونجارة و حداده و (طالب من الله) ومعتوهٌ و مجنونٌ رث الثياب ضمن له محسني السوق فطوره ومنامه و(حق التمباك) والساخطٌون على حكومة نميري كُثُرٌ لأن رطل السكر أرهقهم فقد قفز لعشرة قروش بدلاً من سبعة وكيلو اللحم لامس الثلاثين قرشاً بعد أن كان بأربعة وعشرين قرشاً .
كانت تلك صُور من حياة الناس فى أوائل السبعينيات عندما نقصد ود مدني مع أهلنا وحتى بعد أن أصبحنا نرتادها مع أقراننا وحتى المرحلة الثانوية لم تتغير الصورة كثيراً أكشاك الليمون وسمك حسن جاد الله وفول أبو ظريفة وسوق الذهب وشارع المحطة وشارع النيل ورفّاس (حنتوب) و أحمد (بُقجّة) رجلٌ كان يجيدُ صناعة المراكيب بالسوق الصغير.
كان بحُكم عمل الوالد (عليه رحمةُ الله) بالمؤسسة الفرعية لأعمال الريّ والحفريات فالشارع الذي كان يعبُر الافران والمطاعم وسُوق المحاصيل هو وجهتنا أتبع فيه أبي ريثما يقضى مهامه بالورشة أدخل معه من مكتب لآخر ومن المخرطة الى قسم الزيوت حتى يؤمن طالب سيارته ، وكان يُعرفنى على المهندسين بأسمائهم لشئ كان يضمُره فى نفسه لعله يريدنا أن نكون مثلهم يوماً ما ولعل إحتكاكه بهم كان دافعاً قوياً له أن نُكمل تعليمنا مهما كلفه ذلك من صبرٍ ومُعاناة و قد حقق ما يصبو اليه بحمد الله فنسأل الله أن يجمعنا به فى مُستقر رحمته غير مُبدلين لنهجه وأسلوبه التربوي المُتفرد .
ما كانت حوائج الناس بالسوق تتجاوز الجنية والجنيهين فما بين المخابز و (زنكى) اللحم والخضار وأكشاك الفواكه تمتلئ السلال بالأطايب لا تذمُر ولا غلاء ولا ضجر فى الحياة الناس أجسادُهم تُحدثُ عن صحة وهندامهم يُحدثُ عن رغدٍ وبحبوحة . وساعة (الرُومَر) و(الجُوفيال) تُحدثُ عن إرتياح وثراء .وطبالى الساعاتية تتراصُ بجوار الخياطين ببرندات كبار التجار بشارع الجمهورية يجمعُهم صحن الفول و الشيّة والكمونية و تفرقهم كبابي الشاي يتناولونها خلف الطبالى الزجاجية وماكينات الخياطة .
البصات هى لواري (الهوسن) و (البدفورد) تُعدلّ بإحتراف الى بصْات مُريحة ، (يا أبشرأ) و (الفنخري) وسمُ على جنباتها وبداخلها (العفشُ داخل البص على مسؤولية صاحبه) وماسُورة تعبرُ السقف يترنحُ مُمسكاً بها الكُمساري يجمع الأجرة . يتمايلُ البص مُغادراً المحطة وصيحات الشمّاسة تُشجعهُ (كلللّمو) فما بين قراطيس التسالي والفول المَدمّس و الونسه و تداوُل أكياس (التُمباك) وقراءة الصُحف و مُجاهدة تيار الهواء يمضي الوقتُ ، يتوقف عند كل قرية يضيعُ معها بعضاً من الوقت لإنزال المتاع ثم يَحشرُ المُساعد (الحريف) أصبعيه يكفُ بهما لسانهُ مُطلقا (صافرة) حادة أن تحرك يُرسلُها للسائق ومنهُم من يكتفى بجُملة (إتحرك يااا) فما أروعك يا مدنى و ما أحلاها من أيام

الجمعة ٣/ يوليو ٢٠٢٠م

The post السودان: العيكورة يكتب: من مدني لي سنين appeared first on الانتباهة أون لاين.

اضغط هنا للانضمام الى مجموعاتنا في واتساب

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى