وشكرًا على مقالك الدسم “من الانشغالات الصغرى إلى الأسئلة الكبرى: أحزمة حمدوك الخمسة ورحلة البحث عن مشروع قومى” التيار 11 و12 يونيو 2020.
أثار المقال عدداً من النقاط المهمة لن يتوفر لى المجال للتعليق عليها كلها، سأختار بعضها على أمل أنّ نجد الفرصة مستقبلاً لاستعراض الأخرى. أيضاً أكتب على عجالة حتى أنى اطلعت على المقال لمرة واحدة فقط وذلك حتى لا يغيب الموضوع عن أذهان القراء فى حمى الضخ المعلوماتى المتزايد.
مشاريع متنافسة
أشرت إلى مقترح د. حمدوك رئيس الوزراء حول فكرة الأحزمة الخمسة الذى جاء فيه “….التي تغطي كل أنحاء السودان وتشمل مناطق التمازج خاصة مع دولة جنوب السودان التي توجد معها أطول حدود مع دولة مجاورة وتصل إلى قرابة الالفي كيلومترا، وهناك أيضًا حزام الصمغ الغربي ويغطي كامل منطقة السافنا، حزام الأنهار ويشمل منطقة الوسط ونهر عطبرة، حزام المحاصيل النوعية في ولايتي نهر النيل والشمالية ثم حزام منطقة البحر الاحمر التي تتطلب وضعًا إداريًا خاصًا أقترح لها مفوضية خاصة لتشابك الحسابات المحلية مع قضايا أقليمية ودولية ذات بعد جيوستراتيجي”.
وعضّد ذلك مقال لدكتور حيدر ابراهيم كمشروع قومى للتنمية مشيرا لحموك كأول رئيس وزراء يهتم بالتنمية. ويدور فى الساحة أيضًا جدلاً وسجالاً سياسي بحت حول غياب “المشروع الوطنى الجامع” الذى فشلت الأنظمة فى تحقيقه. أثمن ما جاء فى مقالك باعتبار تناول الموضوع والنقاش بلغة التنمية والانتاج والخدمات ربما يكون المدخل السليم والمفيد للاقتراب من جدل القضايا السياسية، ذلك أنّ لغة التنمية والانتاج والخدمات تضع التحدى أمام اصحاب افكار السرديات الكبرى لترجمة الأفكار الى بناء او مجسم مادى شاهق فى كيان فيزيائى ضخم – قد يكون سدا مائيا، أو مشروع بنية تحتية، او صناعة الحديد الصلب، كهربة الريف، ثورة صناعية، الى غير ذلك من المشارع التى تحدث اختراقاً فى التركيبة الاقتصادية – الاجتماعية وتنقل البلاد الى الامام.
فقط أود الاشارة الى أن غياب مشروع التنمية القومى فكرة يعمل حاليا عليها البعض ومنها مجموعة انبثقت من النشاط المكثف لوازرة الرى والموارد المائية المرتبط بمتابعة المحادثات والمفاوضات حول سد النهضة بين السودان واثيوبيا ومصر، ووجدت الفكرة (فكرة غياب مشروع قومى للتنمية) نقاشا فى ورشة العمل التى نظمتها وزارة الرى والموارد المائية فى الخرطوم 31ديسمبر 2019 وقدم د. سيف الدين حمد الوزير الاسبق للرى والموارد المائية ورقة حول “إدارةالمائية الموارد المشتركة ” اثارت نقاشا موضوعيا حول عدم قدرة البلاد حتى الاستفادة من كمية المياه التى تتيحها لها اتفاقية 1959، وصادف انى كنت مبتدر النقاش الذى ساهم فيه اخرين بقوة ومن بين المشاركين بروف الفاتح الطاهر(MIT) الذى كان الموضوع احدى شغواله وله فيه ورقة “نحو نهضة تنموية للسودان”. وتواصل الحديث فيما بعد فى اديس ابابا فى فبراير 2020 فى اجتماع مع د. ياسر عباس وزير الرى حيث تطرقت مجموعة من الخيراء لاقتراح تشكيل لجنة تضع تصوراً للنقاش حول الموضوع. تمحور النقاش حول بلورة مشروع تنموى يكون موازياً ومعادلاً موضوعياً لما للدول المجاورة لنا من مشاريع قومية تنموية (السد العالى فى مصر، سد النهضة فى اثيوبيا)، مشاريع حققت بها الدول الالتفاف الجمعى لفئات شعبها مترفعة ومرتفعة فوق المزايدات والمناكفات، للدرجة التى لا يستطيع اى من السياسيين ان يزايد على اهمية المشروع القومى التنموى– واصبح الدفاع عنه هو معياراً لتمسك بالوطنية الحقة، فى حين اننا عاجزين حتى من الاستفادة من حتى الاستفادة من كمية المياه التى تتيحها لها اتفاقية 1959.
وتوالت احداث فى ذات الاتجاه حيث استعرض لقاء فى تلفزيون السودان جمع وزيرة الخارجية ووزير الرى ود. ابرهيم الامين الذى طرق على فكرة مشروع تنموى جامع للسودان. وقد وقعت يدى على فكرة مشروع لمجرى مائى يربط بين النيل الابيض ونهر النيل فى المنحنى فى الشمال، وهناك عن تحديث وتوسيع مشروع الجزيرة وامتداداته بعد التعيينات الاخيرة. وتاريخيا تحتفظ ذاكرتنا بشعار “تحرير لا تعمير” وفى اكتوبر 1965، وفى المؤتمر القومى للاقتصاد عام 1986، وربما وردت اشارة لذلك فى الفترات اللاحقة فى التسعينيان والعقد الاول من الالفية الثالثة. لكن من المؤكد ان عددا من الاكاديميين والباحثين قد تناولوا هذا الموضوع فى اعمالهم والمجال لا يتسع للتفصيل. إذن هناك أكثر من مقترح فى هذا الشأن.
دور جامعة الخرطوم
تقوم جامعة الخرطوم حاليا الاعداد لملتقى جامع للقوى السياسية شبيه بما تم فى عام 1965 كمؤتمر للمائدة المستديرة لاتاحة الفرصة لطرح الرؤى لتجاوز المشكل السودانى، وستقوم الجامعة بدور الميسر والمسهل للمداولات بهدف الوصول الى ما يؤسس ويؤطر لمشروع سياسى جامع. ومن بين المحاور المقترحة للتدوال محور الاقتصاد واعتقد ان هذه فرصة لاستعراض
واخضاع فكرة الاحزمة الخمسة مع مقترحات الفاتح الطاهر، وابراهيم الامين ومقترح وزارة الرى، والمجرى المائى الرابط بين النيل الابيض ونهر النيل وربما غيرها للنقاش.
منبر جامعة الخرطوم قد يكون الفرصة لتجميع هذه الجهود المشتتة، لنقاش واختبار المقترحات بما فيها فكرة الاحزمة الخمسة وفحصها على ضوء ما جاء فى مقالك “أستبدال فكرة قسمة الثروة بتوليدها أولا ثم قسمتها بعد ذلك؟ والنظر فى نظام الحكم الادارى الامثل لتحقيق التنمية؟ هل يجعل للأقليم أو الولاية ادارة المناشط الاقتصادية، والحديث عن المفوضية …الخ. بالطبع هناك تساؤلات وجوانب أخرى على المقترحات المطروحة الاجابة عليها – ليس هذا مجال استعراضها.
تحديات متوقعة
بالطبع لا نريد استسهال الموضوع والمقال يذكرنا ان النقلة النوعية “لهذا المشروع تحتاج الى أرادة سياسية قوية قادرة على الحشد وبلورة قدر من الاجماع وبصورة أفضل مما أبدته الحكومة حتى الآن. وفي الحوارات الاعلامية التي اجراها دكتور حمدوك مؤخرا يتضح جليا نوع الخلل الذي يعتور الاداء الحكومي. فبسبب مركزية قضية السلام على مختلف ملفات المرحلة الانتقالية، فأن الحكومة أعطته أولوية وأعتمدت برنامجا أسمته هندسة السلام ويقوم على خمسة محاور تتعلق بقضايا التنمية الاقتصادية والاجتماعية، ثم معالجة لقضايا العدالة الانتقالية، وأعادة النظر في هيكل الحكم والادارة على المستوى الفيدرالي، هذا بالاضافة الى قضايا الترتيبات الامنية الهادفة في نهاية الامر الى تأسيس جيش قومي ثم العون الانساني وأعادة النازحين.
نتجاوز الحديث عن السلام وعما اذا كان سينتهج طريق التسوية السياسية ام التسوية التاريخية، وندلف الى ” أرادة سياسية قوية قادرة على الحشد وبلورة قدر من الاجماع” يمهد الطريق للمشروع التنموى القومى. ومن الاسئلة المسكوت عنها “هل يتم تحقيق الحشد سلميا”؟ والسلمية هى شعار ثورة ديسمبر 2018 – ونفترض جدلا انها نجحت فى تحقيق الحشد وبلورة قدر من الاجماع، لاقفز لتساؤل آخر: الا يتطلب تنزيل المشروع التنموى القومى على الارض درجة من قهر الدولة – خاصة ومعظم مقترحات للمشروع القومى التنموى يستبطن دورا للدولة التنموية؟ وهنا مربط الفرس.
تتفق معى ان الحديث عن التنمية والمشروع المراد صياغته ليس عملا فنيا بحتاً، انما هو سياسياً بامتياز. واذا رجعنا الى شعار “تحرير لا تعمير” سنجد ان مفاده يقوم على رؤية التحالف السياسى الذى حقق الاستقلال واعطائه الاولوية لجلاء القوات والنفوذ البريطانى والمصرى وتحقيق الاستقلال السياسى وليس تغيير نمط النتمية الموروث القائم على انتاج السلع الاولية المتدنية الربحية (القطن مثالا) واستيراد الغذاء (القمح) والادوية، والمنتجات المصنعة (الماكينات) وتسريب الفائض الاقتصادى عبر هذه العلاقة المختلة هيكليا لصالح للمركز الراسمالى الغربى. ويا ليتنا ابقينا على علاقة التبعية “الاصلية” اذ سرعان ما جاء نظام مايو وتحولنا تحت مسميات “سلة غذاء العالم العربى” والشراكة الثلاثية (التى جمعت بالاموال النفطية العربية والتكنولوجيا الغربية والاراضى السودانية الى دولة تابعة “تبعية درجة تانية”، خاصة مع قبول الحكومة توجهات صندوق النقد الددولى كما يوثق لذلك بروف على عبدالقادر على “من التبعية الى التبعية” (دار الستقبل العربى، 1990). صارت تبعيتنا ليس كتبعية كوريا الجنوبية (التى تمكن الولوج للسوق العالمى عبر الميزة النسبية) بل تبعية لدول لها مصلحة فى مواردنا الطبيعية، لان اقتصاديتها الريعية تابعة، وفرض علينا هوان دولتنا أن نصدر لها مواردنا الاولية خام (كأمثلة الثروة الحيوانية، الصمغ، السمسم) تقوم هى بتصنيعها واعادة تصديرها. هذه التبعية المركبة رافقها تحالف حاكم وفر له الاسلام السياسى “غطاءا سياسيا وايديولوجيا”، لكن والادهى والامر اعاد تركيبة الراسمالية المحلية من راسمالية “وطنية” الى راسمالية كمبرادورية ان لم تكن كليبتوقراسية – كما تشير نتئج تحقيق لجنة التفكيك. ساعود لحديثك لامكانية تحالف الشباب مع طبقة اصحاب الاعمال.
من يدفع تكلفة التنمية
وهنا اسمح لى أن اكرر ان الاثر التراكمى السلبى لمايو والذى عمقته الانقاذ لثلاثين عاما خلق واقعا كارثياً (الق نظرة على من يتحكم فى اهم القطاعات الاقتصادية!) ويصعب كثيراً من تكوين التحالف المرجو لتبنى وتدشين المشروع القومى التنموى بدون أن تظهر القيادة قدرا من “قهر الدولة التنموية”. الواقع السياسى لمصر واثيوبيا يشير الى جمال عبدالناصر، او ميلس زيناوى ما كان لهما النجاح فى تقديم مشاريع قومية تنموية (السد العالى فى مصر، سد النهضة فى اثيوبيا) عبر التسويات السلمية، فالثورة فى البلدين فيها درجة كبيرة من المخاشنة، لكن هنا قدر لنا هنا ان تأتى ثورة ديسمبر 2018 رافعة شعار السلمية. السؤال هل ترتضى الطبقات غير الاسلامية (طبقة اصحاب الاعمال) التى اثرت فى عهد الانقاذ الاستعداد لدفع ما يليها من مساهمة لتحقيق التنمية المستقلة؟ وهل حققت بالفعل درجة كبيرة من الاستقلال فى انشطتها؟
لكن دعنا نربط الحديث عن السلمية ليس فقط فى تشكيل وخلق التحالف الداعم للمشروع التنموى القومى، بل فى تنزيل سياسات المشروع التنموى لارض الواقع. اشار مقالك ان التنمية يجب توليدها اولا قبل توزيعها وهنا احس أن هناك يجوس بين السطورمفاده ان توليد الثروة يتطلب دفع ثمنا للتنمية. وهذا صحيح، ففى معظم، وليس كل، تجارب الدول التى حققت التنمية كان هناك ثمناً وتكلفة دفعتها الشعوب سواء عبر آليات السوق والتسعير، او عبر آليات القطاع العام والتخطيط المركزى، وفى كلا الاحوال تم توظيف درجة من قهر الدولة تجاه مواطنيها (حتى الدول التى كانت لها مستعمرات واستغلت مواردها). لا اعمم هنا، ولكن فى الغالب المشروع القومى التنموى يستلزم درجة من “قهر الدولة التنموية”. لا نود ان نذهب بعيدا كما فى حالة الاتحاد السوفيتى “السياسة الاقتصادية الجديدة” (النيب NEP) أو الصين فى عهد ماو تسى تونغ، او كما جاء اعلاه فى مصر عهد عبدالناصر واثيوبيا مليس زناوى، لكن بالمقابل ليس هذا شرطا ضروريا اذ هناك دول لم تلجأ لقهر الدولة بصورة سافرة لاستخراج الفائض الكامن واستثماره انتاجيا. فالهند مثال لوجود منظومة حكم ديمقراطية ومع ذلك حققت تنمية وماليزيا فى عهد مهاتير و هناك أمثلة أخرى. وهناك الاقتصادى المشهور أمارتيا سن، يرى أن الديمقراطية هى شرطا لتحقيق التنمية الاقتصادية.
التحالف المرتجى
ينوه المقال الى “امكانية ان تتوفر الفرصة لمشاركة أفضل لفئتين برزتا كقوتين فاعلتين في الساحة وذلك على غير ما كان عليه الوضع أثر الانتفاضتين الشعبيتين في 1964 و1985”. الاشارة الى القوة الشبابية ورجال الاعمال صائبة، ولكن أين موقع هذا التحالف من الحاضنة السياسية للثورة؟ أعتقد انه من المبكر اعطاء اجابة حاسمة.
يبدو، وارجو ان اكون مخطىء، ان هناك ما يشىء الى عدم توفر درحة مقدرة من التوافق بين الطرفين اذا اخذنا النبرة “الثورية” فى خطاب بعض المجموعات الشبابية، فى حين تنظر طبقة اصحاب الاعمال لما يجرى كمرحلة “اِنتقال وليس ثورة؟” . أيضا لم اقم بمسح للتعرف على افكار الشباب ولكنى أعتقد أنهم يتطلعون لدور رئيسى للدولة فى مشاريع التنمية – فى حين ان طبقة اصحاب الاعمال تكيفت مع “اقتصاد السوق” وقد لا تتسق مصالحها مع دور فاعل ومتسع للدولة للتحكم فى استخراج الفائض الاقتصادى الكامن واستثماره انتاجياً. ولكن وفى ذات الوقت، وعطفا على التجريف الذى احدثته الانقاذ، أين هى مؤسسات الدولة التى تتسم بالكفاءة المؤسسية القادرة على ادارة عملية التنمية معقدة (تستلزم درجة من القهر الادارى والاجرائى) والتى ستواجهه الطبقة التى خلفتها الانقاذ بمعارضة قوية؟.
تعقيد الوضع العام والسيولة التى يتسم بها تجعل من الصعب اعطاء أحكاماً جازمة، لكن مع ذلك النقاش وتبادل الرأى هو المطلوب عسى ولعلّ نفك “كلمة السر” password التى أعيت اجيالا قبلنا وعطلت مسرة قاطرتنا.
أكّرر شكرى وتقديرى للأخ السر سيد أحمد.
The post عطا الحسن البطحانى: مشاريع متنافسة appeared first on باج نيوز.