وجه الحقيقة | إبراهيم شقلاوي
أشرف: جدلية الأخلاق والسياسة !
في زمن تختلط فيه المصالح بالمبادئ، وتتداخل فيه السياسة بالأخلاق، تغدو الأزمات الإنسانية معيارًا لصدق القيم. حيث تمثل معاناة الزميل الصحفي أشرف عبد العزيز، رئيس تحرير صحيفة “الجريدة”، مع مرض الفشل الكلوي نتيجة مضاعفات ارتفاع ضغط الدم، اختبارًا صعبًا أمام الجميع: كيف يمكن أن نقارب بين البعد الإنساني والمواقف المثيرة للجدل؟
في مثل هذه الظروف ، يصعب الفصل بين الواجب الأخلاقي الواضح، وحسابات السياسة المعقدة. ويبرز تساؤل مهم : هل الرحمة مجرّد استجابة ظرفية، أم رؤية تتجاوز السرديات، وتعيد رسم حدود الفعل الأخلاقي؟ وهل يمكن للتعاطف أن يُمارس كواجب إنساني مستقل عن ذاكرة مثقلة بمواقف مخزية تجاه الوطن؟
أكتب هذه الكلمات مستحضرًا معرفتي الشخصية بأشرف عبد العزيز منذ أواخر عام 2017، حين كنت مسؤولًا عن مجلس التنسيق الإعلامي لقطاع الكهرباء والري، أواخر فترة الوزير د. معتز موسى. كنا نعقد لقاءات مغلقة مع رؤساء تحرير الصحف لمناقشة الملفات الحساسة، وكان أشرف من أكثر الحاضرين التزامًا وحرصًا على الحوار والفهم، دون إخلال بمهنية الموقف أو مقتضيات التحفظ.
لقد ظل أشرف أكثر من مجرد صحفي معارض . خلف تجربته الإعلامية، يمتدّ تاريخ شخصي لا ينفصل عن مسيرته المهنية؛ فقد عرفه الناس في تسعينيات القرن الماضي مقاتلًا ضمن صفوف شباب الإسلاميين، ممن رأوا في القتال ضد تمرد الجنوب واجبًا وطنيًا ودينيًا، واشتهر حينها بلقب “أشرف دوشكا”. وكان قبل ذلك من قيادات طلاب الإسلاميين بجامعة الخرطوم. هذا الإرث، بكل ما له وما عليه، لا ينبغي أن يُمحى ، ولا يُغفل عند قراءة مواقفه الحالية، مهما أثارت من جدل.
قرار الرئيس البرهان مؤخرًا بالتكفل بعلاجه، أثار نقاشًا واسعًا في الوسط الصحفي: هل جاء القرار استجابة إنسانية خالصة؟ أم تراجعًا أمام خطاب معارض وُصف بالانحياز لمليشيا الدعم السريع؟
لكن السؤال الأجدر بالطرح: هل تُقاس المواقف الإنسانية بميزان الولاء السياسي؟ وهل من حق الدولة أن تنتقي من تُعالج وفقًا لمواقفهم، أم أن عليها أن تسمو فوق الاصطفاف، وتحتضن جميع أبناء الوطن؟
الحالة الصحية التي يمر بها أشرف لا تحتمل التأويل، لا طبيًا ولا إنسانيًا. فهو مريض بحاجة إلى علاج عاجل، وربما إلى رعاية مستمرة تتجاوز إمكانياته الذاتية. لذا فإن تقديم العلاج له لا يعني تبني مواقفه أو تبريرها، بل قد يكون العكس: موقفًا يتأسس على قيم العدالة والتسامح، وعلى التفريق بين الإنسان الذي يحتاج للرعاية، وبين أفكاره التي تبقى خاضعة للنقاش والمساءلة القانونية.
وفي مجتمع كالسودان، عُرف تاريخيًا بثقافة الصفح والتكافل، لا يصح أن تتحول العناية الطبية إلى ساحة لتصفية الحسابات. فهذا بلد كان فيه الجار يطعم خصمه إذا مرض، وتُردّ فيه الدماء بالعفو و المصالحة رغم الأحزان. فهل يليق بنا أن نهدر هذه القيم في لحظة تستوجب شهادة التاريخ؟
لقد كان “فتح مكة” لحظة تأسيس للدولة على أساس تجاوز الضغينة السياسية، ومثالًا علي إعادة ترتيب الأولويات. العفو الذي منحه النبي محمد ﷺ يومها لخصومه، لم يكن ضعفًا، بل سياسة راشدة هدفت إلى إنهاء الصراع وبناء دولة عادلة. وفي السياق السوداني، أظهرت الحرب أن الصراعات الصفرية، والخطابات الانتقامية، لم تفضِ إلا إلى التشظي والانقسام ودخول الأجنبي.
ربما تكون لحظة علاج أشرف عبد العزيز إعادة الاعتبار إلى فكرة “المشروع الوطني الشامل”، الذي يتسع للاختلاف دون أن يُكافئ العنف، ويحتضن المخطئ دون أن يُبرر الخطأ. مشروع يقوم على مراجعة الفكر السياسي، بما كشفت عنه الحرب من هشاشة الانتماءات،، واستعداد كثيرين للانزلاق في خطاب الكراهية و الإقصاء .
وفي هذا السياق، نستدعي مقولة الفيلسوف نيبور وميل: “الوطن ليس حزبًا، ولا جيشًا فقط، ولا حاكمًا. الوطن هو ما يبقى حين تنطفئ الشعارات وتبقى القيم.”
هذه الكلمات تذكّرنا بأن الانتماء الحقيقي لا يقوم على خطابات الحماسة أو المواقف الظرفية، بل على القيم التي تجمعنا، وعلى القدرة على العفو والاحتواء، وعلى التعامل مع الآخر كإنسان يُراجع مهما عظم الاختلاف.
فالدولة التي تنشد بناء المستقبل ، لا تبدأ بإقصاء المختلف، و لا تقتل روح التسامح ، بل تصقلها بالعدالة، والمراجعة، والشفافية وحكم القانون. في السياق نفسه، فإن الحاكم العظيم، الذي يدرك دوره التاريخي في قيادة الأمة، لا ينبغي أن يغرق في التماهي مع مؤيديه أو خصومه، بل عليه أن يقف دومًا على مسافة واحدة من الجميع.
وبهذا الفهم، بحسب #وجه_الحقيقة يصبح دعم علاج من اختلف معك في الرأي، لا مكافأة ولا توبة، بل تعبيرًا عن مسؤولية قيادية ترى في الناس مواطنين، يتساوون في الحقوق والواجبات. أما التصنيف الأخلاقي – من هو البطل ومن هو المخذل – فليس من شأن السلطة أن تحدده، بل من حق الشعب أن يصوغه عبر شهادة التاريخ، والقانون، والوعي الجمعي، والتجربة السياسية. لذلك حين تعي السلطة هذا التوازن الدقيق بين الرحمة والعدل، وبين المسؤولية والانضباط، فإنها تحوز ما لا تمنحه البنادق ولا تهبه الهتافات.
عاجل الشفاء للأخ أشرف، شفاء لا يغادر سقمًا، اللهم آمين.
دمتم بخير وعافية.
السبت 19 يوليو 2025م
Shglawi55@gmail.com