“ارتقاء الحضارات يتحقق بالارتقائية السيكولوجية التي تبدأ بفعل الأفراد” .. جوستاف لوبون ..!
بعد نحو أسبوعين يحل تاريخ ميلاد هذه الحرب التي أمسكت بالدولة السودانية من أكتافها وهزتها هزاً وأعادت صياغة مفهوم الولاء الوطني والبراء السياسي، وأخرجت أشراراً من القماقم والقدور وأدخلت كراماً وأخياراً القبور، وغيرت معالم الخرطوم الهاجعة، وهجرَّت أهلها بين نازحٍ في الأقاليم ولاجئٍ في دول الجوار. وأقلقت منام الجزيرة الوادعة ونَكَّلَت بسادتها وأذلَّت حرائرها واغتالت براءتها على أيدي تتار دارفور ومغول الشتات الذين نكاد نقسم أن “عين جالوت” أخرى تنتظرهم في هذا السودان ولو بعد حين ..!
انتهاكات الجنجويد في ولاية الجزيرة أثبتت أنهم ليسوا بشراً أسوياء بل شرذمة مجرمين بلا ضمائر وبلا أفئدة، أما صمت وتراخي السياسيين المتواطئين مع تلك المليشيا فقد أكد أنهم حفنة أوغاد لا خلاق لهم. فكيف يستوي الذين يقتلون والذين لا يفعلون، وكيف يتساوى هؤلاء وأولئك مع سائرالبشر؟. في كتابه “الأخلاق والحرب” يقول ديفيد فيشر “إن الفشل في الالتزام بأعراف الحرب وقواعدها الأخلاقية يُخَلِّف بحاراً من الأسى والألم، فالأخلاق ليست شيئاً غامضاً أو غير عقلاني بل أنها هي التي ترشدنا بشأن ازدهارنا كبشر”. فأين هؤلاء وأولئك من أخلاق البشر ..!
ومما لا شك فيه أن هذه الحرب قد وضعت الشعب السوداني – أيضاً وعن بكرة أبيه – أمام أزمة أخلاقية لا يمكن تجاهلها. فإلى جانب المعارك التي اندلعت بين الجيش والمليشيا اشتعلت “حرب أخلاقية” موازية بين كافة فئات الشعب السوداني على اختلاف مناطقها الجغرافية وامتداد انتماءاتها القبلية وتباين تصنيفها الطبقي. تلك الحرب الأخلاقية عَرَّت مساوئنا وفضحت عيوبنا ووضعت قيم سودانية كثيرة – ظللنا نتشدق بها ونفاخر – على محَك الاختبارات القاسية والتجارب العملية، ثم ظهرت النتائج التي جاءت بياناً بالعمل ..!
وهي حال شبيهة بتلك المحَّكات الأخلاقية التي تعرض لها أبطال الكاتب المسرحي العظيم “فريدريش ديرنمات” في مسرحيات عديدة مثل “الشهاب” وهبط الملاك في بابل” و”زيارة السيدة العجوز” .. إلخ .. حيث تظهر بعض حقائق الشر بعد مواجهات صارمة فيتكشَّف سوء طوية الإنسان أمام ذاته قبل الآخرين ..!
حكايات بعض النازحين عن التشرد والجوع والمسغبة بعد تنكر أقرب الأقربين وحكايات بعضهم الآخر مع شجع المؤجرين والبائعين تضع الكثير من الأبيات الداوية في أغاني الحماسة السودانية أمام امتحان مصداقية وتعيد صياغتها بكثير من الإحلال والإبدال ..!
وحكايات معظم اللاجئين مع ظلم ذوي القربى في دول الجوار – وتعرضهم للاحتيال والظلم والتدليس والاستغلال لظروفهم المعقدة في بلاد الناس – هي صور اجتماعية مؤسفة تستوجب الوقوف أمام الكثير من عبارات المدح والثناء التي نُكيلها في وصف الذات السودانية التي سترها الله حيناً من الدهر ثم فضحتها ظروف النزوح واللجوء في زمن الحرب ..!
لذا لا بد من عقد اجتماعي وأخلاقي جديد في بلادنا الجديدة التي ستخرج كالعنقاء من تحت رماد هذه الحرب، فتعيد صياغة ذاتها كوطن وتعيد بناء شعوبها كأمة واحدة عظيمة تشبه أخلاق أهلها قصائد شعرائها وتشبه سلوكياتهم أغانيها التي تبدع في تمجيد الوطن ومدح المواطن ..!