ذهبت أزمة السودان في ثوبها الجديد والمزركش بانتصارات القوات المسلحة في الميدان، إلى عيادة الولايات المتحدة الأمريكية وعادت بخيبة أخرى أطلق عليها مسمى (وثيقة الحل السياسي) ،والتي طرحتها مجموعة “تقدم”، بنودها تؤكد أن أمريكا لم تعد طبيبا فاعلاً رغماً من تأثيرها الكبير على القرار في المحيط الإقليمي.
كما بات معروفاً جيداً، أن السودانيين اليوم يقفون على محطتين تندرجان تحت العنوان (معركة الكرامة)، المحطة الأولى، وهي أمنية مباشرة، عنوانها إنتهاء الحرب والعودة إلى الديار، أما وسيلة إنهاء الحرب فقد أعلنها الجيش بشكل مباشر، أن القضاء على فلول المرتزقة وتدمير مشروع استعمار السودان هو السبيل الأوحد؛ ومضت القوات المسلحة في مسيرتها بالعمل على تطهير المدن المحتلة.
أما المحطة الثانية، وهي سياسية، عنوانها الصراع الدامي أو الوفاق السوداني؛ وفاق ما لا تزال طبيعته شديدة الغموض، تصير معها الجهات التي يفترض أن تتفق على انهاء الأزمة السودانية ومعالجة جذورها، ومن ثم وضع لبنات الدولة السودانية الحديثة، اي الأحزاب والكيانات هي المشكلة التي ينبغي حلها.
وربما جاز لنا أن نلخص الطريق إلى هذه المحطة الثانية بمعادلتين، كل منهما تتأثر بالأخرى وتؤثر فيها.
– أولهما: أن تعمل الأحزاب السياسية السودانية على الحؤول دون تكرار مذبحة الخرطوم في بقعة أخرى من بقاع البلاد، ومن ثم إطلاق وجهة تفضي إلى سقوط شعار (ما عدا)، والقناعة بأن مشروع الدولة السودانية الحديثة ما بعد حرب ١٥/ ابريل ينبغي أن يشارك في وضعه جميع السودانيين، بمن فيهم الإسلاميين أنفسهم.
الجيش نفسه تغشاه الهواجس تجاه ظهور عناصر الإسلاميين في ميادين القتال، هواجس ربما ترتقي إلى درجة الرفض، وهي ذات الأسباب التي دفعت قيادة الجيش إلى عدم التعاون مع نشاط المقاومة الشعبية بالحماس المتوقع ، يرغب العسكريون في حسم المعركة عبر مؤسسات الدولة، ويقدرون حماس الشباب السوداني ورغبته النبيلة في الدفاع عن أرضه.
– ثانيهما: أن تتمكن القوى السياسية الموصوفة ب( وكلاء المشروع الأجنبي في السودان )، من منع خروج القوات المسلحة منتصرة من هذه الحرب، ومن ثم محاولة سيطرتها على القرار والتمثيل السوداني، أو على جزء معتبر منهما، وهذه الفرضية تعني أن تدخل هذه الأحزاب وحلفاءها الدوليين في مواجهة مباشرة مع السواد الأعظم من الشعب السوداني الذي ينحاز إلى صف القوات المسلحة وحلفاءها.
وهنا اذكر عندما تم إعتقالي فبراير/ ٢٠١٩ م إبان ثورة ديسمبر، بعد التحقيق تم احضاري إلى مكتب ضابط بجهاز الأمن وقتها، هيئته وعمره يشيران إلى أنه برتبة عميد، سألني مباشرة: (رشان انتوا طالعين ثورة ليه؟) جاءت اجابتي مفعمة بالروعنة والصبينة: (عشان نسقطكم) ابتسم الضابط وقال: (خليك عارفة يا رشان بعمايلكم دي حتفرتقوا السودان طوبة طوبة، وخليك عارفة أنه ده شغل دولي وانتوا مستخدمين ساي)، ما زلت اعض نواجذ الندم، ليتني صدقته وقتها وتوقفت عن المشاركة في وزر ما انتهى بنا إلى هذا المآل.
بالعودة إلى قضيتنا الأساسية، هاتان المعادلتان وضعتا السودان على فوهة بركان.
اذا لا خيار غير احتواء هذه النكبة، القضية أكبر بكثير من بقاء أشخاص في المشهد أو ذهابهم. وأكبر من مصير أحزاب بعينها. القضية تتعلق بمستقبل شعب ومستقبل الاستقرار في المنطقة برمتها.
مجرد التفكير في العودة إلى ما قبل ١٥/ ابريل تظهر أن النكبة التي كانت السبب الرئيسي في زعزعة الاستقرار في السودان مستمرة.
ويجب ألا يسقط عن وعينا ان كثيراً ما رفع شعار التحول الديمقراطي لتغطية طموحات أو تبرير سياسات. هذا من دون أن ننسى أن مذابح الخرطوم، الجزيرة، دارفور كانت أكبر حجماً بكثير من مذابح النكبة السابقة، وان كل المشاريع التي هزت السودان توكأت على على شعار الديمقراطية الزائف.
وثيقة الحل السياسي التي طرحتها مجموعة “تقدم” المدعومة دولياً، والتي تتحدث عن فترة انتقالية مدتها عشر سنوات، ما هي إلا محاولة أخرى للقفز إلى الامام لإيجاد سبيل يضمن عودة الأوضاع إلى ما قبل ٢٥/ اكتوبر.
وثيقة “تقدم” والتي تحمل شعارات التحول الديمقراطي الزائفة، تعبر عن رؤية جديدة لحلفاؤهم الدوليين واعني تحديداً الولايات المتحدة الأمريكية التي تشعر بالقلق ناحية التقارب السوداني الشرقي.
محبتي واحترامي