حتى وهم على بعد آلاف الكيلومترات من بلادهم، يعمل المغتربون السودانيون على مساعدة بلادهم المنكوبة بحرب أهلية ضروس، في وقت يبدو أن العالم قد صرف اهتمامه عن السودان، وهم يستخدمون في ذلك أساليب شتى مستقاة من إرث طويل لدى السودانيين للتضامن أثناء الكوارث والأزمات، خاصةً في المهجر.
كان جهاد صالح يشاهد مباراة كرة سلة بين فريقين في ملعب مغلق بولاية فرجينيا الأمريكية. وتبدو هذه المباراة، التي أقيمت لجمع تبرعات في شهر أغسطس/آب لمنظمات الإغاثة السودانية المحلية، بعيدة عن شوارع الخرطوم المكتظة بالجثث، والتي يقيم فيها بعض أفراد عائلته.
وهذه البطولة غير الرسمية Slam Dunk For Sudan واحدة من حملات كثيرة لجمع التبرعات الإنسانية، يقودها المغتربون السودانيون وأحفادهم في الغرب منذ اندلاع الحرب. ومن أمريكا الشمالية إلى أستراليا، يجمع السودانيون الأموال لتوفير أدوية الطوارئ والغذاء والإيجار، ويضغطون على المسؤولين لتسهيل دخول اللاجئين، ويوفرون معلومات عن سلامة الطرق والرعاية الطبية وإدخال الأموال إلى البلاد، حسبما ورد في تقرير لصحيفة The Washington Post الأمريكية.
ومع دخول الحرب شهرها السادس، يُداهم كثيراً من السودانيين ومؤيديهم على مستوى العالم شعورٌ بالإحباط، في الوقت الذي تصارع فيه البلاد لتحصل على حصتها من ميزانيات الإغاثة الدولية، وتبقى على أجندة المساعدات العالمية.
مفوضية الأمم المتحدة للاجئين لم تحصل إلا على ربع التمويل الذي طلبته للسودان
والأسبوع الماضي، التقى ممثلون عن الأمم المتحدة ومصر وقطر والسعودية والاتحاد الأوروبي والاتحاد الإفريقي، في نيويورك، على هامش الجمعية العامة للأمم المتحدة، لمناقشة هذه الأزمات الإنسانية المتصاعدة في السودان.
لكن المفوضية السامية للأمم المتحدة لشؤون اللاجئين لم تتلق إلا 27%، أو 266 مليون دولار، من مبلغ المليار دولار الذي طلبته لاستجابتها الطارئة للسودان. ولفتت المفوضية، في أوائل أغسطس/آب، إلى “تباطؤ التمويل رغم خطورة الأزمة”.
ومبادرات المغتربين السودانيين، رغم محدوديتها، تكتسب أهمية متزايدة في ظل فشل قنوات المساعدة الأخرى، وعدم الإيفاء بالوعود الدولية.
وقال صالح: “نريد فقط أن تنتهي هذه الحرب وهذا العنف، وعندها سنتمكن من السعي لتحقيق التقدم مرة أخرى في السودان”.
وخارج إفريقيا والشرق الأوسط– موطن ملايين اللاجئين السودانيين– تضم الولايات المتحدة وكندا وبريطانيا وأستراليا أكبر عدد من السكان السودانيين. إذ يعيش حوالي 70 ألف سوداني في الولايات المتحدة، وفقاً لمجلة World Population Review. وبعض أكبر تجمعاتهم توجد في ولايتي فرجينيا وماريلاند والعاصمة الأمريكية واشنطن، بعد الغرب الأوسط.
وكان المهاجرون واللاجئون السودانيون يفرون من حكم عمر البشير الديكتاتوري لعقود. وبعضهم كانوا من الناجين من الإبادة الجماعية في دارفور، التي قادها البشير وقوات الدعم السريع في منتصف الألفينات.
وتشير تقديرات المفوضية إلى أن أكثر من 5.4 مليون شخص فروا أو نزحوا داخلياً منذ أبريل/نيسان. وتوجَّه الجزء الأكبر من اللاجئين إلى تشاد أو مصر المجاورتين. وقُتل أكثر من 1500 آخرين، وفقاً لوزارة الصحة السودانية، رغم أن عدد القتلى الحقيقي ربما يكون أعلى من ذلك بكثير.
وأعلنت الولايات المتحدة، مطلع هذا الشهر، عن مساعدات إضافية للسودان، تزيد قيمتها عن 130 مليون دولار، ولكن في اليوم نفسه أصدرت أكثر من 50 منظمة حقوقية وإنسانية بياناً مشتركاً، يدعو إلى توفير المزيد من المساعدات والمبادرات الدولية الفورية. وقالت: “لم تعد البلاد على شفا فظائع جماعية، لقت سقطت فيها”.
وقال بول أسكويث، مدير الأبحاث والمناصرة في مؤسسة الشبكة البحثية في لندن، التي تركز على قضايا الهجرة والقضايا الإنسانية، إن صمت الغرب عن الأزمات السياسية والإنسانية في الجنوب العالمي ليس مستغرباً.
وتوجد منظمات إغاثة دولية كبرى داخل السودان أو على طول حدوده، لكن خلود خير (38 عاماً)، المدير المؤسِّس لمركز كونفلوينس الاستشاري ومقره الخرطوم، قالت إن منظمات المجتمع المدني السودانية لا تزال هي المسؤولة عن الجزء الأكبر من الاستجابة الإنسانية. وقالت: “تُرسل الكثير من تحويلات المغتربين إلى هذه المنظمات وليس الطرق التقليدية للمنظمات الإنسانية”.
وقالت بيادير محمد عثمان (27 عاماً)، من بالتيمور، إنها تشعر في كثير من الأحيان بأن المنظمات السودانية “تؤدي عمل المنظمات العالمية”.
وكانت عائلتها فرّت إلى شمال فيرجينيا عام 2000، هرباً من اضطهاد البشير، لكن والدها عاد إلى السودان حين اندلعت الحرب الأخيرة.
الغرب ترك مواطنيه من أصول سودانية عالقين في الحرب
وفي بداية الحرب، فقدت بيادير الأمل في أن تجعل الولايات المتحدة محنة السودان أولوية، إذ أغلقت السفارات الغربية أبوابها بعد اليوم الأول من القتال. ونظمت الدول عمليات إجلاء لمواطنيها، لكنها تركت الكثير من المواطنين مزدوجي الجنسية خلفها، وهو ما يمثل، في رأيها، تناقضاً صارخاً مع استقبال الغرب للاجئين الأوكرانيين.
وقالت: “إذا كانت الولايات المتحدة تعامل مواطنيها كمواطنين درجة ثانية، فلِمَ أتوقع منهم أن يهتموا بمجموعة من السودانيين المجهولين في قرية صغيرة؟” .
وبيادير، التي تدرس للحصول على درجة الماجستير في الصحة العامة، متطوعة في منظمة الاستجابة للتنمية المستدامة، وهي منظمة مقرها واشنطن، وتقدم للشعب السوداني دروساً واستشارات طبية عبر الإنترنت. وحين أخبرها أحد الأصدقاء أنه سيسافر من السعودية إلى بورتسودان في اليوم التالي، جمعت أموالاً وقائمة بأدوية الطوارئ التي يرغب الأطباء في توصيلها من خلاله في ظرف ساعات.
نصيحة مؤلمة من طبيب سوري لنظيره السوداني
وبالمثل، لم يتوقف هاتف ياسر يوسف الأمين، أحد سكان هيوستن، عن الرنين. وقال الأمين، رئيس جمعية الأطباء السودانيين الأمريكيين (SAPA)، إنه التقى بنظيره السوري لاستشارته، في اليوم الثاني من الحرب.
وقال الأمين، وهو طبيب أورام: “من أولى الأشياء التي قالها لي هو أن الأمر لن يكون سهلاً وقال إن علي أن أتذكر أن لدي عائلة ووظيفة”.
وقال الأمين إن النصيحة في محلها، ولكن يستحيل العمل بها. وقال: “هذه تجربة تهزك من الداخل”.
المغتربون السودانيون يؤسسون عيادات مجانية ويوفرون أجور لـ2000 طبيب
وفي السودان، تنظم جمعية الأطباء السودانيين الأمريكيين عيادات طبية متنقلة مجانية، وتقدم استشارات، وتدفع رواتب حوالي 2000 خبير في المجال الطبي، من بين مبادرات أخرى.
وقال الأمين إنه في بداية الحرب شهدت منظمة الأطباء السودانيين تدفقاً للتبرعات، ولكن “للأسف، العالم مليء بالمآسي”.
وأفاد نشطاء سودانيون في بريطانيا وكندا وأستراليا بانخفاض في التبرعات أيضاً.
وقال محمد صلاح (43 عاماً)، رئيس جمعية الجالية السودانية في مدينة فكتوريا الأسترالية: “الحرب أثرت على جميع الأسر السودانية هنا، والجميع يدعمون أسرهم مالياً في السودان”.
وقال إن الجمعية دعت إلى تمديد تأشيرات السودانيين في أستراليا، لكنهم محبطون إزاء عجزهم عن الإتيان بالمزيد.
وقال عماد ساتي (55 عاماً)، مدير جمعية الجالية السودانية الكندية ومقرها ألبرتا: “أشعر بخيبة أمل من كندا ومن المجتمع الدولي، لأن الكارثة مهولة، وتوجد أزمة إنسانية حقيقية”.
وقال عماد، الذي لديه ثلاثة أبناء، إنه لا يستطيع النوم في أحيان كثيرة. وأضاف أن كل يوم يحمل “خبراً كارثياً” عن مقتل شخص أو موته دون دواء.
وقال جهاد صالح إن بطولة كرة السلة، التي أقيمت الشهر الماضي في فرجينيا، جمعت حوالي 3500 دولار، وهو مبلغ جيد. والفائز محل خلاف، إذ يزعم فريقان أنهما فازا بعد عملية تسجيل الأهداف المعقدة في البطولة.
وقال صالح: “السودان هو الفائز في النهاية”.
المصدر \عربي بوست