قبل حوالي أسبوع، وُجِد اثنان من الرعاة مقتولَين قريبًا من مدينة ”كرينك“ الواقعة جنوب شرق مدينة ”الجِنّينة“ عاصمة ولاية غرب دارفور في السودان.
أقارب الرعاة تتبعوا الأثر، فانتهى بهم إلى مداخل مدينة ”كرينك“، في الحال تجمع عشيرة المقتولَين وطالبوا السلطات بالقبض على القتلة خلال ساعتين فقط، وبالطبع لأن التقصي يستغرق زمنًا، فانتهت المهلة بلا ردٍ.
وشنت عشيرة المقتولين هجومًا على بعض أطراف المدينة وقتلت ”8“، وجرحت ضعفهم، ولا يهم إن كان للقتلى الجدد علاقة بالجريمة، فالأمر هنا مجرد بداية لحساب عدد من يجب أن يسقطوا ثمنًا للجريمة الجنائية الأولى الخاصة بالرعاة الاثنين، وانتهت الجولة الأولى التمهيدية من الثأر إلى حين.
وبدأت تنتشر نداءات استنفار لمنسوبي القبيلة التي ينتمي إليها الراعيان المقتولان، وفي غضون يومين فقط تشكل جيش جرار مدجج بالأسلحة الحديثة الخفيفة والمتوسطة على ظهور سيارات الدفع الرباعي.
ومع مطلع فجر يوم الأحد الماضي، بدأ هجوم كبير من كل الجهات على مدينة ”كرينك“، اجتاح المهاجمون كل البيوت والمؤسسات، حتى مقر الشرطة، ورئاسة المحلية، والمدارس، بل والمساجد، ولم تستثنِ الغارة النساء ولا الأطفال والمعلمين في المدرسة، وإمام المسجد، وفي أقل من ساعتين كانت الحصيلة حوالي 210 قتيلًا، ومثلهم من الجرحى.
وكما ينتشر ”الفيروس“، انتقلت حمى الصراع إلى عاصمة الولاية مدينة ”الجنينة“ لكنها هنا اتخذت شكلًا أكثر خطورة، قتال بالأسلحة الثقيلة تورطت فيه بعض القوات النظامية المرتكزة في المدينة، وقُتل أحد قادة الحركات المسلحة الموقعة على اتفاق السلام بـ“جوبا“.
والي الولاية في تصريح صحفي مُصوّر قال: ”لا يشرفني أن أكون عضوًا في حكومة لا تحمي المواطن“، علمًا بأن السيد الوالي هو رئيس اللجنة الأمنية المسؤولة عن حفظ سلامة جميع مواطني الولاية وممتلكاتهم، وعندما سُئل من المسؤول عما حدث؟ ردَّ: ”الحكومة“.
الصراعات الأهلية بولايات دارفور الكبرى تنتهي دائمًا بأرقام كبيرة للقتلى في ساعات قلائل، وفي حين تهتز العاصمة الخرطوم لجريمة قتل واحدة بدافع السرقة، وتفرد لها وسائط الأخبار حيزًا كبيرًا، وتهتم الحكومة بالصدى الجماهيري فتجتهد لملاحقة الجناة، ثم تعقد مؤتمرًا صحفيًا لتروي للناس تفاصيل الجريمة وتداعياتها، فإن خبر مقتل المئات في ساعات، وقد يكون بينهم نساء وأطفال، لا يهز الضمير الوطني إلا بمقدار الصدمة الأولى التي سرعان ما تزول، ولا تصل مطلقًا هذه الجرائم إلى منصات القضاء ولو بعد حين.
وخلال العامين الماضيين دارت في مدينة ”الجنينة“ 4 معارك أهلية طاحنة، وفي مدينة ”الكرينك“ نفسها خلال 6 أشهر تم شن هجومين كبيرين، وجملة الخسائر قد تقترب من ألفي مواطن بريء، منهم نساء وأطفال قُتلوا بدمٍ باردٍ.
وفي كل هذه المعارك كان السلاح المستخدم أكثر فتكًا مما يتوافر للقوات الحكومية نفسها، وفي غالبه سلاح مملوك للمواطنين العاديين مُدخر في البيوت ليوم أسود، فالأسرة التي لا تملك جهاز تلفزيون في البيت، تدخر السلاح لـ(يوم كريهة وسداد ثغر) أسلحة حديثة قيمتها كافية لتوفير حياة سعيدة في بيت مكتمل الأثاث.
فقراء لا يملكون المال لشراء أبسط مقومات الحياة لأطفالهم، لكن في الوقت ذاته يمتلكون أفضل الأسلحة باهظة الثمن.
أحد المواطنين في المنطقة تحدثت إليه مباشرة قال لي دون أن يرف له جفن: ”أملك في بيتي أسلحة مضادة للطائرات“، ثم يقدم مرافعة تكشف الأسباب فيقول لي إن حماية أسرته، وعِرضه، وماله، هي مسؤوليته الشخصية، وإن الحكومة لا توفر الأمن ولا الأمان.
وبهذا المنطق يصبح امتلاك السلاح المُدمر فخرًا للمواطن، لأنه دلالة على الشهامة والرجولة، والحرص على حماية العرض والأهل.
وما إن تنطلق الرصاصة الأولى، أيا كان مُطلقها أو المستهدف بها، حتى تبدأ عمليات فرز خطيرة للغاية، تنقسم القوات النظامية في المدينة بالهَوّية، فريق يدافع عن الطرف الذي يشاركه وشائج القربى والدم، وفريق آخر مع الطرف الآخر.
ومن هنا، تبدأ أرقام القتلى في الارتفاع المخيف، فالأطراف ليست مسلحة فحسب بل عالية التدريب ومحترفة.
وبعد كل جولة قتال، تنطلق الخطب القوية من المركز تدين وتشجب وتستنكر، وتهيب بالأطراف ضبط النفس، وأن السلطات ستُكوّن لجنة تحقيق تستقصي الحقائق لتقديم المسؤولين إلى العدالة، ويُسدل الستار في انتظار جولة أخرى أكثر دموية، وخسائر مادية، كما حدث في المعركة الأخيرة بمدينة ”كرينك“ حيث لم يبقَ فيها شيء.
ورغم أن الكثيرين يعزون هذه الانفجارات الأهلية نتيجة حتمية لتوفر السلاح عند الأهالي، لكن الحقيقة أن السلاح ليس هو الخطر في حد ذاته بل العقول التي تحمل السلاح.
وفي بعض مناطق السودان تغيب التنمية وأسس الحياة الكريمة، فتستوي الحياة والموت في نظر الكثيرين، خاصة عندما يرتبط الأمر بشرف القبيلة.
والمعالجة الناجعة لا تأتي من رحم الترتيبات الأمنية مهما كانت صارمة، رغم كونها أيضًا مطلوبة، ولكن لاجتثاث الأمر من جذوره، فلابد من التنمية التي تستهدف الإنسان، وترقية الاحساس بالحياة لديه.
والمواطن الذي يرى أولاده في الصباح يحملون الكُتب في طريقهم إلى المدرسة، ثم يجلس مع أسرته، مساءً، يشاهد التلفزيون لن يرى الحياة بنفس المنظار القديم، حينما كان مجرد رقم مهمل في القوائم الرسمية، بلا شهادة ميلاد، وغالبًا يمضي بلا شهادة وفاة.
والمثير للدهشة في الحالة السودانية، أن هذه المناطق التي تراق فيها أنهار الدماء، هي من أغنى بلاد الله بالموارد الطبيعية وقادرة على أن ترفع مستوى الحياة لأرقى ما هو متاح، ولكن العقلية السياسية جعلت البؤس شعارًا للكسب السياسي لا لتغيير الواقع الاجتماعي، فكل الرايات التي رفعت المظالم حَوّلتها في النهاية إلى مكاسب مناصبية ويظل الحال على ما هو عليه للمواطن الذي باسمه تراق الدماء.
وبحساب الربح والخسارة في هذه المناطق الغنية بالموارد الانفاق على التنمية لا يكلف الخزينة العامة للدولة بل يعود عليها بازدهار اقتصادي سريع وكبير، لأن الاستثمار -خاصة العالمي- يبحث عن مثل هذه الفرص، وكل المطلوب هو عقلية تدرك أن إدارة الدولة تحتاج إلى رؤية وخطة مدروسة تستهدف الإنسان أولًا وأخيرًا.