الراى السودانى
نظريا يمكن لأي كادر سياسي ان يصف النظام المثالي لحكم السودان، يمكنه كذلك أن يشرح المؤسسية المطلوبة والهيكل المطلوب لقيادة التقدم عبر السنوات، ولكنه يعجز بالتأكيد عن تحويل النظرية إلى واقع، يعجز عن تحويل الحلم إلى حقيقة، وهذا بالضبط ما يعانيه الكثير من الناس في دروب الحياة، يعرفون هدفهم والطريق اليه ولكنهم عاجزين عن بلوغه، وهذه مرحلة عجز مرتبطة بالوسائل وبالمقدرات، إذ لا يمكنك بناء مؤسسة نظريا وتتوقع ان تنجح، كما لا يمكنك بناء مؤسسة وتدعيمها بالكوادر الذين تنقصهم الخبرات والمؤهلات والابتكار وتتوقع لها النجاح.
ينطبق هذا على المشهد السياسي السوداني، فهناك نظريات متعددة للحكم وبرامج سياسية متعددة تجيب عن سؤال كيف يحكم السودان؟ وكيف ينهض السودان؟ وكيف يتطور السودان؟ ولكنها جميعها مجرد أحلام على الورق، خيالات عاجزة عن التحول إلى الواقع، جميع الأحزاب السياسية لديها برامج للحكم والنهضة، وعشرات منظمات المجتمع المدني لديها رؤى حول الحكم والإدارة في السودان، والجميع عاجز حتى اليوم عن إخراج البلاد من ورطتها، والسبب أننا ننجح في توصيف العلل ووصف الطرق النظرية لمعالجتها ونفشل في التطبيق.
احد الاجانب الذين شاركوا في التخطيط والتنفيذ الأول لمشروع الجزيرة في عهد الاستعمار في الربع الأول من القرن الماضي، سافر بعد بداية المشروع بقليل إلى بلاده وعاد في زيارة إلى السودان في السبعينيات، وحين زار مشروع الجزيرة تعجب من استمرار وضع المزارعين في حالة فقر، فقد كانت خطتهم حين إنشاء المشروع ان يتطور المزارع ويصبح خلال سنوات صاحب مزرعة وعربة وتراكتور وحظيرة حيوانات مليئة بالحيوانات، ويتحول الى شخص مكتفي ذاتيا من الخضروات والحبوب، بالطبع كان هذا تخطيط نظري، ولكن التطبيق كان بعيدا جدا عن الواقع، فالاحلام النظرية اذا لم تجد الرعاية والتنفيذ السليم والخبرات والقدرات التي تنجزها ستتحول مع الايام إلى هباء. كالأطفال نحلم لهم بمستقبل باهر ولا نجتهد معهم في القراءة والكتابة ولا نشتري لهم الكتب ولا نوفر لهم البيئة المناسبة للتطور العقلي والذهني ونتعجب في نهاية الأمر كيف انهم لم ينجحوا؟!
النظريات والأحلام في الحكم التي يذكرها رئيس الوزراء حمدوك في أحاديثه المتعددة تبدو موضوعية ولكن من سيطبقها؟ من سيحولها من نظريات إلى واقع ومن أحلام إلى حقيقة؟ في القرن قبل الماضي في ظل واقع مضطرب وصعوبة في السفر، سافرت اربعة فرق أجنبية من علماء الفلك الاوربيين في اتجاهات مختلفة نحو آسيا وأفريقيا وشمال وشرق أوربا من أجل تصوير ومشاهدة ودراسة لحظة اقتران نجمي فلكي لا تحدث إلا مرة في كل ٢٠٠ عام، بعضهم وصل وبعضهم تاه وبعضهم قتل، وتمكن فريق واحد فقط من تحقيق الهدف المنشود وعاد إلى أوربا وساهم في تطويرات مهمة في علم الفلك نتيجة لهذه الرحلة، المستوحى من هذه القصة ان نظريات الحكم التي يصرح بها حمدوك اذا لم يقرنها بالعمل الفعلي ويوفر لها القدرات والكفاءات ويخاطر من أجل تنفيذها ستظل مجرد نظريات جميلة في واقع بائس، لا تثمن ولا تغني من جوع.
صحيفة السوداني