السودان اليوم:
التقيت قريبتي بعد فترة طويلة …كانت تحيتها فاترة ..استغربت ..فهي شخصية حيوية ..(اكيد زعلانة مني في شئ) ..سألتها مباشرة (مالك يا فلانة ما عوايداك )..قالت لي (ما جيتي عزيني في بت عمي) .. اخذت وقتا طويلا لاتذكر ..بعيد عنكم انا مصابة بداء (بعد الذاكرة ) بضم الباء ..اتذكر الاحداث البعيدة ..تلك التي حدثت في بواكير حياتي وايام الطفولة السعيدة …اما التي حدثت بالامس القريب فهي تكتب على سطح ماء المخ ..سرعان ما تجرفها افكار وتفاصيل اليوم العادية ..المهم ما علينا ..تذكرت الوفاة وقلت لها (كيف ياخي ما عزيتك ..انا متذكرة انو الوفاة كانت ايام الحبسة بتاعة الكورونا ..وانا اتصلت عليك عزيتك ) ..لوت فمها يمنة ويسرة (اتصلتي علي ؟ دا ما كان ايام القفلة ..هسه الدنيا كلها فتحت ..ليه ما جيتي بالدرب؟)..
هذا ما لم اضعه في الحسبان ..يعني كل الوفيات التي حدثت اثناء الكورونا ..يجب علينا التعزية فيها (لايف) ..والاتصالات الهاتفية تعتبر لاغية بعد فتح الكباري ..اما تعازي الواتساب والفيس بوك ..فهي ليست مبرئة للذمة ..وعلى أصحابها مراجعة حساباتهم ..دي عوجة عديل ..اعتقد ان الشعب السوادني …هو الشعب الوحيد على ظهر الأرض ..ذلك الذي تتوقف حياته كاملة عند موت احدهم ..ومن ثم يبدا في اعادة حسابات علاقاته بعد ذلك ..العزاء ..اولا …ومن ثم (عصر الفراش ) ثانيا ..وبعد ذلك تأتي تفاصيل اخرى ..ياما تقطعت علاقات نتيجة ان فلانا (ما عزاني في فلان )..وياما توطدت علاقات ذلك لان الناس ديل (ماقصروا معانا في وفاة فلان ).. الموت عندنا حدث يتوقف عده الزمن ..والجزع الذي يحدث خاصة لموت الفجاة يجعلك تتخيل اننا كنا قد اخذنا وعدا بالخلود…او شئ من هذا القبيل.
شرد ذهني لايام خلت ..كنا في السعودية ..في مدينة الطائف ..اتصلت جارتي السعودية قائلة بصوت حزين (اليوم اتوفي اخي ..وانا الحين اروح لجدة ..واعاود بكرة باذن الله .والعزاء عندي الاربعاء الساعة خمسة مساء ان شاء الله) ..اذكر انني انعقد لساني حينها ..كيف لها بهذا الصبر والثبات ..تخيلوا لو ان هذه سوادنية ..كان (السكلي ما يديك الدرب )..من هنا لما تصل مطار الملك عبد العزيز ..الله يهدينا بس ..تمتمت بكلمات العزاء ..واغلقت الهاتف لاتصل بجارتي السودانية والتي صرخت في التلفون (اخوها مات وتقول العزاء الساعة خمسة بعد اجي من جدة ؟ عاد يا يمة الله لا جاب يوم موت اخوي ..كان فتحت العزاء ما قفلته ..الغربة ان شاء الله تعقر ..دايره تعلمنا قسوة القلب ) ..اذكر انني قلت لها (بالعكس انا حسيت انها حزينة جدا ..لكن صابرة ..ودا اعتقد المفروض يكون ردة فعل الزول المؤمن بالجد ..نحن ياخ بنجزع في الموت شديد ..وبعد داك نخلي القدامنا والورانا ونقعد نصاقر اهل الميت ..نقضي على الأخضر واليابس ..وبعد داك ..كمان البكاء للحول بيجيب الزول ) ..
اتذكر جيدا يوم العزاء .ذهبنا اليها في تمام الخامسة ..كانت حزينة لكنها صابرة ..معها مجموعة من النساء تتوسطهن امراة وضيئة الملامح ..بدأت الحديث عن الموت كحقيقة واقعة ..لكنها تحدثت بطريقة مختلفة عن الحياة الاخرى ..تحدثت عنها كبوابة للعبور الى عالم ارحب ..عالم القرب من الرب والجنة لصاحب الأعمال الصالحة ..جعلتنا ننظر الى الموت بطريقة مختلفة ..يومها دعونا للميت بخالص الدعاء ..وقرأنا القرآن ..وتدارسنا عدة امور دينية ودنيوية ومن ثم رجعنا الى ييوتنا وقلوبنا ملأئ باحساس جميل من الامن والطمأنينة .. ..
كل ما تأتي هذه الذكريات في نفسي ..اتحسر باننا اخذنا أشياء كثيرة من الخلايجة ..الا فقه التعامل مع الموت ..الا هذا الصبر والتسامح مع الفناء ونهاية الحياة …عندنا لا تزال المناسبات الحزينة تاخذ منا الوقت والمال والجهد ..وقد كنت اظن ان الكورونا ستلقي بظلالها على بند المجاملات عندنا ..لكنني كنت مخطئة ..والدليل ..ما انا فيه الآن ..
(اها ..قدرت تتذكري انك ما جيتي ؟ انا حافظة اي زول وصلني ..حتى الناس الجو بي قفاي كلموني بيهم ..انت ما جيتي) ..ايوة والله ما جيت ….تكاثرت علي النصال ..والذاكرة ارهقت من كثرة الاحداث والافعال .. ..كنت اعتقد ان الكورونا ستجب ما قبلها ..لكن يبدو انني لم انجح في هذه الورقة بالذات ..وكان تعليق الاستاذ على ادائي هو (اعد وقابلني في نهاية اليوم).
The post الكورونا …لا تجب ما قبلها.. بقلم د. ناهد قرناص appeared first on السودان اليوم.