السودان اليوم:
دَسّ أبي فى يدي (طرّادة) وهى العُملة الورقية الحمراء فئة الخمسة وعشرين قرشاً وهو مُستلقٍ على سريره بجواره منضدة صغيرة يعلوها الراديو و(حُقّة) التمباك ثم عدّل من رقدته على جنبه الأيمن وهو مُمسكاً (بالطرّادة) يُوصينى أن أجلس فى الكراسي الأمامية مع الرُجال الكُبار وإذا حاول أحدٌ أن يُجلسنى وراء بالكراسي الخلفية مع الصغار فقُل له أنّك مُرسل من أبيك وتُريدُ أن (تخُت) هكذا وجهنى وكانت المُساهمة فى الزواج تُسمى (الختّة) وتُسجّل فى دفتر وغالباً يُختارُ لها شخصان أحدهُما يكتُب الأسماء ويُراعي فيه معرفته الجيدة بأسماء رجال وشباب القرية كاملة ثلاثية أو رباعية والآخر يستلم المبلغ وغالباً ما يُخصص لها علبة كعلب الحلوى الفارغة، لا أذكُر تحديداً عرس منْ ولكن كانت المُناسبة بديوان ود داؤود لم يكن بعيداً عن بيتنا ولكن لحداثة سني كتلميذ بالسنة الرابعة الابتدائيه فقد أعطانى البطارية وإتقاءاً لكلب حاجة (الدِقيّق) أمرني أن أحمل معي العصاية وإمعاناً فى الهندام والوجاهة أحضرت لي أمي (جاكت) بدلة الطهُور لأرتديها مع الجلابية، كان الظلامُ حالكاً وعواء الكلابُ يتقاطعُ مع هُدوء الليل لم تكُن الكهرباء قد تمددت شرايينها بالقرية آنذاك، عبرتُ بدُكان عبد الله ود زروق (الرتينة) الوحيدة بالفريق كان الرجلُ يجردُ حصيلته اليومية تمهيداً لأغلاق الدُكان. طرق نعالُ بعض الرجال يتقاطعون معي الخُطى قادمين من فريق العلقماب في طريقهم لدعوة العُرس لا أحد يعرف من الماشي كان الظلام دامساً إلاّ من أضواء البطاريات المُتقاطعة ويُقصدُ بها الكشاف اليدوي بدأ يخفُ نورها تدريجياً كلما إقتربنا من الديوان مُتأثراً بضوء (الرتاين) كانت تُرفع على طاولات صغيرة المساحة ذات قوائم عالية توزّعت على أركان الحُوش وبين الفينة والأخرى هُناك من يتعهدها بإنزالها وضخ الهواء فيها كانوا يُسمونها (كبس الرتينة) ثم يوزن البلف بحركة أفقية فتعلو وتنخفض إضاءتها حتى يرضى عنها المسؤول ثم يُعيدها لمكانها وغالباً يُكلف بهذه المُهمة من له خبرة من الشباب، حركة الرجال داخل الحُوش والعُمامات الشارفة والاصوات والتوجيهات كشاكلة: قعِدوا فلان وانتبهوا للجماعة ديل ما إتعشوا وما تكتروا العدد عبارات لم أفهم ما يُقصدُ بها كأول تجربة لي فجلستُ في أحد كراسي الحديد الأمامية حسب (برتوكول) الوالد وما توقعه فقد سألني رجل يتبعه شاب يحملُ إبريقاً والآخر طشتاً صغيراً يتحكم هذا الثلاثي فى عدد أشخاص الصينية الواحدة فسألني (إنتا ود منو) فأجبته وعلم أنني مُرسل من أبي فأمرهُم أن يغسِلوا لى فمددتُ يدي مع من بجواري فتأكّدتُ أنها الخُطوة الأخيرة لما قبل الصالون حيثٌ العشاء وفعلاً بعد مُدة لم تطول كُنتُ خلالها أحّول بصري مُتأملاً حركة الناس وأذكُر أنْ أحمد ود داؤود كان صوته عالياً بالطُرف يتحلقُ الرجالُ حوله وتتقاطع الضحكات والحشرات الطائرة ناحية (الرتاين) حتى نادى ذات الرجل الذى أشرف على غسيلُ أيدينا أن (الجماعة الغسّلُو يتفضلوا) كُنتُ مُرتبكاً لا أعلم كيف يجلس الضيوف وأين أجلُس وما سهل عليّ المُهمّة أن الصينية كانت واحدة تتوسط الديوان ولم تكن حينها يستخدمُون الطرابيز والكراسي بل كانوا يفترشون السباتات. كان من بين المدعُويين حاج ياسين الجزار ويعرفني حق المعرفة بسبب الغلبة الصباحية التي نسببها له بالجزارة مع أندادي فسألنى (إنتا ود أُمْحّدَ علي؟) أي يقصد إبن محمد علي فقلت نعم ، كانت الصينية ممتلئة وكان بلحمة الضلع قُوة وشِدّة أعجزت الكبار فإستلّ حاج ياسين سكينه من جفيرها وقطّع اللحم للجلوس فرداً فردا وكان لي نصيبٌ وافرٌ فقلّة حجمي وقصر يدي جلبا لي الكثير من الرحمة واللحمة تكوّمت أمامي فكنتُ الصبي الوحيدُ بينهم. أذكر بعد إنتهاء العشاء كان على الجميع أن يغسلوا أيديهم بساحة الديوان بالاباريق تحت أيدي الصبية هُم فى سنيّ تقريباً ثُم يعُودوا لتناول التحلية كانوا يُطلقون عليها (الحُلُو) لم يكُن يومها قد ظهرت سلطة الفواكه ، صحنٌ من الأرز يعلوهُ قالب من الكاسترد وحوله الملاعق يُنتظر من تأخر فى الغسيل حتى يعُود كنت أستغرب ذلك أكل ثم غسيل ثم عودة ثم تحليه لم نعتاد علي هذه (البريكات) فى نطاق الأسرة العادية . لا أذكر أنني شربتُ شاهياً بعد العشاء أو قد يكون موجوداً ولم القِ له بالاً أو لانه لم يكن من إهتمامات الصغار حينها ، كانت طربيزة الكشف بجوار الحائط تعلوها إحدى (الرتاين) على صدر الحوش قُبيل الباب يمين الخارج رأيتُ الرجال يُخرجون جزالينهم ومحافظهم ثم ينحنُون كمن يُحدث باسمه همساً وبالقيمة فتبعتهُم ولم أكن مُحتاجاً للأنحناءة فقد كان طولى يتجاوز الطربيزة قليلاً فأخرجتُ من جيب (الجاكت) الداخلي (الطرّاده) كما أوصتنى أمى مُحذرةً (حتى لا يقعن منّك خُتهن في جيب البدلة) هكذا قالت لى وقد كان مبلغاً مُحترماً يومها ، مددتُ المبلغ قائلاً (محمّد علي أحمد المنصور) فرفع رأسه ناظراً الىّ قائلاً إنتا ود (أُمْحّد علي) فأومأتُ برأسى أن نعم ثم خرجتُ ، كان الليلُ قد اليّل وزيادة وكلب (حاجة الدِقيق) ننطقها بكسر الدال و الياء مع التشديد ما زال هو العقبة الكؤود التى تنتظرُنى مررتُ مُسرع الخُطى تُشجعنى العصا والبطارية ويُرعبُنى النباح فعبرتُ بسلام كان ود زروق قد أغلق دُكانه أدلفتُ باب الزنكي للحوش وأذكر أننى كُنتُ مُتوتراً من حالة السُكون التى مررتُ بها مُستحضراً الفسحة التى بعد بيت خادم الحي بت ابراهيم ودكان ود زروق كانوا يقولون لنا أنّها مَسْكُونة فدخلتُ لاهثاً ، أجلسنى الوالد بجواره وهو مُستلقٍ كما تركته كان سعيداً يسألنى عن المُهمة بتفاصيلها فحكيتُ له كيف أديتُها بنجاح وبحاج ياسين الجزار الذى عرفنى وحدثته عن التحلية وعن دفع الطرّادة ثم ناولته البطارية وإنصرفتُ لأجد لحافى قد برَدَ بنسمة الليل و(توب الدمُورية) على طرف العنقريب ينتظرُ فكان طائر الاحلام وحده من يعلم ما يرمى اليه الوالد فى هذه السن المُبكرة من عُمرى فلماذا أرسلنى أحقاً هو (تعبان) كما قال لى أم أنها أوّل لبنة لإعداد جيل مسؤول مُرتبطٌ عشقه بالأرض والاهل والقرية وشجاعة أدبية رأي أن وقت غراسها قد حان أم أراد أن يُعلمنى كيف آكُل و أتحدث مع الغُرباء رحمهُم الله رحمة واسعة لم ينالُوا حظاً وافراً من التعليم ولكن كانت نفوسهم أكبر من أن يستوعبُها فصلٌ وسبورة فهل نفعل نحنُ ذلك مع أبنائنا ؟ .
The post دعوة في ديوان ناس ود داؤود.. بقلم العيكورة appeared first on السودان اليوم.