وجه الحقيقة | إبراهيم شقلاوي
السودان والصين.. ريدة وكمان جديدة
من مطلع إحدى قصائد عبد الكريم الكابلي، فنان الوطنية والتحرير، نستعير عنوانًا يشكّل مدخلًا مفاهيميا إلى إدراك العلاقات الدولية من منظور سوداني. فـ”الريدة المتجددة” بكل رمزية الثقة والوفاء التي تتجاوز الحالة الشعورية، لتغدو تعبيرًا عن نمط من الالتزام السياسي والأخلاقي المتبادل، ذلك يتجسد بوضوح في علاقة السودان بالصين. هذه العلاقة، التي بُنيت على احترام السيادة ورفض الشروط المسبقة، تمثل نموذجًا لتحالف استراتيجي يقوم على التوازن لا التبعية، وعلى الانسجام مع مصالح الشعوب لا ابتزازها.
ما بين الخرطوم وبكين تواصل مميز بين عاصمتين، وعلاقة راسخة تضرب بجذورها في التاريخ. فمنذ ستينيات القرن الماضي، حرص السودان على توثيق الصلة بالصين، إدراكًا منه لحاجته إلى شريك تنموي لا يتحدث بلغة الإملاءات، بل يمدّ اليد للعمل والمساعدة، وهو ما وجده في الصين. بل إن البعض يعيد جذور هذا التلاقي إلى أبعد من ذلك، حين بدأت مغامرات غوردون باشا الاستعمارية في الصين، وأُخمدت في السودان، كأن مصير البلدين تقاطع مبكرًا مع إرث مقاومة الغطرسة والإمبريالية.
هذه العلاقة التي ظلّت طوال عقود بين التعاون الاقتصادي والدعم السياسي، عادت مؤخرًا لتأخذ بعدًا أوضح وأكثر حيوية، مع زيارة الرئيس عبد الفتاح البرهان، إلى بكين في سبتمبر الماضي، ضمن فعاليات منتدى التعاون الصيني–الأفريقي. زيارة كانت شديدة الأهمية، لكونها أعادت السودان إلى قلب واحد من أكبر الأطر الجيوسياسية والاقتصادية في القرن الحادي والعشرين، وهو مبادرة “الحزام والطريق”.
أظهرت الصين، خلال هذه الزيارة، أنها لا تزال عند حسن ظن السودانيين بها. ففي غضون يومين فقط، وُقّعت اتفاقيات ضخمة تجاوزت قيمتها 7 مليارات دولار بحسب سونا ، شملت مشاريع في مجالات الطاقة، وبناء وتحديث الموانئ والمطارات، والتعدين، وتوليد ونقل الكهرباء، كما وُقّع اتفاق نوعي في مجال الصناعات الدفاعية مع شركة “بولي” الصينية، بما يعزّز الجاهزية السيادية والأمنية للدولة في زمن الحرب وما بعدها.
هذه الحزمة من الاتفاقيات عبّرت عن إعلان نوايا استراتيجية من الطرفين لإعادة بناء السودان، تتجاوز الإعمار إلى تثبيت موقع البلاد على خريطة التحولات الجيوسياسية. وهي أيضًا مؤشر على أن الصين ما تزال تنظر إلى السودان باعتباره شريكًا موثوقًا، يمكن الاعتماد عليه، لما يتمتع به من موقع جغرافي فريد على البحر الأحمر، حيث يلتقي الأمن بالاقتصاد، وتُصنع التوازنات.
في هذه الأيام، تُكمل الصين مشهد دعمها السياسي والاقتصادي بإعادة تأهيل قاعة الصداقة والقصر الجمهوري الجديد، اللذين سبق أن أسهمت في تشييدهما، الأول عام 1976 مع تطويرات لاحقة في 2005 ، والثاني بين 2011 و2014 بدعم مباشر من بكين. وها هي اليوم تعود لإعادة ما دمرته الحرب، في خطوة تنطوي على التقدير والوفاء والاحترام .
انسجامًا مع هذه الرؤية، أعلن الفريق الركن الدكتور محمد الغالي، الأمين العام لمجلس السيادة، الأسبوع الماضي عن اكتمال المرحلة الأولى من تأهيل القصر الجمهوري، تمهيدًا لبدء المرحلة الثانية، التي يتم تنفيذها بواسطة دولة الصين الشعبية.
هذه الإجراءات تجعل تأهيل القصر الجمهوري فعلًا يعكس عودة الدولة إلى موقعها الطبيعي، واستعدادها للدخول إلى مرحلة جديدة تستوجب استعادة التحالفات القديمة مع الأصدقاء، وتوظيفها في الاتجاه الصحيح.
في هذا السياق، جاء خطاب مندوب الصين في مجلس الأمن الأسبوع الماضي ليضع لبنة سياسية جديدة . فقد أكد بوضوح دعم حكومة الأمل، معتبرًا تعيين رئيس وزراء مدني في السودان خطوة إيجابية يجب أن تحظى بالدعم، وأن السودان وحده من يملك حق تحديد مساره السياسي، داعيًا إلى احترام سيادته ووحدة أراضيه.
هذا موقف وجد إشادة من المراقبين، باعتباره يعبّر عن فلسفة الصين الدولية المبنية على الحياد الإيجابي، واحترام الخصوصية الوطنية، وهو ما يجعلها أكثر قبولًا في أفريقيا مقارنة بالقوى التقليدية.
من هنا، فإن هذه اللحظة التاريخية تستدعي من السودانيين شعبًا وحكومة أن يكونوا على قدر التحدي، وأن يدركوا جيدًا أن الصين ليست مجرد شريك اقتصادي، بل شريك نهضة. وإذا ما وُضعت رؤية واضحة للعلاقة معها، قائمة على المصلحة العليا لا التقلبات السياسية، فإن الخرطوم يمكن أن تستفيد كثيرًا من هذا التحالف المنتج، والراسخ برسوخ العلاقة بين الشعبين.
وهو ما يؤكد أن الدولة السودانية، رغم ما تمر به من تحديات، لا تزال قادرة على فرض حضورها، إذا ما أحسنت قراءة تحالفاتها، وأدركت أولوياتها، ومضت نحو إعادة بناء نفسها بعيدًا عن الأوهام والوعود .
هذا وبحسب ما نراه من #وجه_الحقيقة ، فإن السلام والتنمية يمكن أن ينهضا بالسودان سريعًا، شرط أن تتوفر الإرادة الصادقة، والرؤية الواضحة، والشركاء الحقيقيون. وفي مقدمة هؤلاء الشركاء، ما تزال الصين تمثل وجهًا للصديق القديم، الذي لم يخذل السودان، ولا يزال يؤمن بأن الوفاء للعلاقات المبنية على الاحترام والتقدير المتبادل – “الريدة” – في السياسة كما في الشعر، لا تموت إذا كانت صادقة.
دمتم بخير وعافية.
الأحد 6 يوليو 2025م
Shglawi55@gmail.com