*أكثر من خمسة أشهر انقضت منذ انقلاب ٢٥ أكتوبر ولم يكن لها من حصادٍ غير الهشيم .. أكثر من خمسة أشهر والأزمات تتفاقم ويأخذ بعضها برقاب بعض في فضاءات السياسة والاقتصاد والمجتمع.
*بإمكان أي مراقب حصيف أن يقرر بلا تردد أن الانقلاب هو السبب الرئيسي والمباشر الذي أوصلنا لهذه الأزمة الشاملة التي وضعت الوطن على شفا جرفٍ هار .. ولكن هذا لا يعني أن فترة ما قبل الانقلاب كانت مرضية لطموح الشعب السوداني .. صحيح أن الحكومة الانتقالية، قبل الانقلاب، حققت نجاحات في ملفات معروفة رغم التركة الثقيلة من النظام المباد ورغم العوائق المصنوعة التي واجهتها، ولكن الحقيقة أن أداءها لم يكن خالياً من القصور والأخطاء، بل كان لكاتب هذه السطور ملاحظات نقدية علنية على بعض جوانب أداء الحكومة الانتقالية – في نسختيها الأولى والثانية – بغرض الإصلاح والتصحيح ولكن للأسف كثيرون، في معسكر قوى الثورة، لم يرضهم ذلك النقد واعتبروه إضعافاً للحكم المدني، في حين أن الروح النقدية هي مصدر قوة الحكم المدني .. وعموماً، فإن الأخطاء وأوجه القصور متوقعة في أي وضع انتقالي يأتي بعد نظام حكم استمر عشرات السنين موسوماً بالاستبداد والفساد، ولكن المعالجة تكون بالحوار بين شركاء الانتقال من كل قوى الثورة – سواء في السلطة أو خارجها – والشفافية مع الشعب وإحسان الإصغاء لصوته ومساهمة الجميع بالمراجعة النقدية المستمرة لتصحيح الأخطاء وتلافي القصور، وليس بخطوات آحادية مثل الانقلاب العسكري لفرض السيطرة على إدارة شؤون الوطن بالقوة.
*في حقيقة الأمر أعادنا الانقلاب إلى مرحلة ما قبل ١١ أبريل ٢٠١٩، ولذلك لم يكن غريباً أن ينهض ملايين السودانيين لمقاومته في موجات متتالية عَمّت كل أنحاء السودان وشاركت مختلف قوى الثورة في التحشيد لها والانخراط العَضَلي فيها .. بعض هذه الموجات الجماهيرية لامست أسوار القصر الجمهوري، وكان آخرها المواكب الحاشدة التي هدرت في طول البلاد وعرضها يوم أمس الموافق السادس من أبريل .. ورغم هذا الحراك الجماهيري المستمر وما قدمه من تضحيات جسام تمثلت في أكثر من تسعين شهيداً ومئات الجرحى والمعتقلين، لم يسقط الانقلاب لأن هذا الحراك الباسل افتقد الشرط الحاسم لتحقيق النصر وهو تماسك القوى المشاركة فيه في جبهة عريضة بقيادة سياسية موحدة .. ورغم أن الجماهير، التي فجّرت ثورة ديسمبر المجيدة، هي التي تمثل الشرعية الحقيقية، لكنها لم تجد حتى هذه اللحظة تعبيراً سياسياً عنها يستطيع أن يتحدث من موضع ثقة .. وفوق ذلك، فإن كثيراً من القوى الخارجية، التي أيدت ثورة الشعب السوداني وتطلعه للديمقراطية والاستقرار والازدهار، تتابع حراك قوى الثورة بعد الانقلاب وتقف مع شرعية ما تمثله ومشروعية ما تطالب به، لكنها حتى الآن لم تعثر على قيادة سياسية موحدة لهذا الحراك.
*سوابق التاريخ تؤكد أن الشعوب لا تنجح في تجاوز الأزمات الكبرى والمخاطر العظيمة إلا إذا توحدت إرادتها وأدارت معركتها بعقل وطني جماعي، وبالطبع ليس بعيداً عن ذلك مآثر شعبنا العظمى في تحقيق الاستقلال واسقاط الأنظمة الشمولية الثلاث .. وبالمثل فإن واقعنا الحالي يفرض على كلِّ قوى الثورة – من أحزاب سياسية ولجان مقاومة ومهنيين ومنظمات مجتمع مدني وتجمعات نسوية وشبابية ومثقفين ومبدعين … إلخ – أن تترفع عن الصراعات الثانوية وأن تُنسِّق جهودها في جبهة عريضة بقيادة سياسية موحدة، إذ بدون تحقيق هذا المطلب سيظل قوس النصر محذوفاً من دائرة الحراك الثوري وسيظل يراوح مكانه دون أن يحقق هدفه.
*نتوجه بنداءٍ مخلصٍ لكل قوى الثورة ونقترح الشروع الفوري في تكوين مركزٍ واحد عبر جسم تنسيقي بقيادة سياسية موحدة، جبهة عريضة لا تذوب فيها الأطراف وإنما يبقى كل طرف بما يمثله، ولكن يعمل الجميع سوياً لإنجاز هدف إنهاء الانقلاب وكل ما ترتب عليه، عبر التنسيق الإعلامي والميداني، ورؤية سياسية مشتركة تتضمن الإتفاق على ترتيبات دستورية تنشأ بموجبها سلطة مدنية تباشر إنجاز مهام الفترة الانتقالية العالقة وتمضي بما تبقى منها نحو انتخابات عامة حرة ونزيهة بنهايتها، وأن يكون ضمن المتفق عليه وجود مؤسسة عسكرية قومية مهنية واحدة تكون مسؤولةً عن حراسة حدود الوطن من أي اعتداء ودورها في الانتقال هو حماية ومساندة الشرعية الدستورية، ولا شأن لها بالسياسة وصراعاتها.
*وفيما يختص بالسلطة الانتقالية الجديدة – من حيث تفاصيل مؤسساتها ومهامها والمعايير المطلوب توفرها في شاغلي مواقعها واختيارهم – نقترح أن يتم ذلك عبر آلية مشتركة تمثل كل قوى الثورة.
*إن المسؤولية الوطنية والأخلاقية واعتبارات الرشد السياسي تقتضي أن تنهض كل قوى الثورة، دون ترددٍ أو مماطلة، لمواجهة الحقيقة وأداء الفريضة الغائبة وهي التنسيق الفوري عبر جبهة عريضة بقيادة سياسية موحدة.
*الأحلام النبيلة بلا مستقبل إن لم تسندها الحقيقة والإرادة .. إجتماع الحقيقة والإرادة هو المستقبل.