الخرطوم : أحمد طه صديق
ربما كان مناطق الشمال ونهر النيل من أقل المناطق رفعاً لصوت الإحتجاجات المتعلقة بالمطالب الخاصة بينما كانت نهر النيل الأكثر تمرداً على السلطات على مر الحقب الماضية من حيث الشأن العام وقليل من المطالب الخاصة بشؤون الحياة المختلفة بالرغم من أن تلك الولايتين مازالتا تنقصهما الكثير من البنيات الأساس من خدمات المياه والكهرباء والتعليم والصحة ولم تعانق عاصمتي الولايتين رياح التغيير الحضاري المتمثل في الطرق وكهربة المشاريع الزراعية بالوجه الأكمل والنهضة الصناعية حتى في مستواها الأدنى ، ولعل صبر سكان تلك المناطق على تلك الأحوال البائسة والرضا بالأمر الواقع والتطبيع معه شجع كثيراً من الحكومات المتعاقبة على اختلاف فترات الحكم ونمطه من مدني إلى عسكري إلى تحويل قضايا تلك المناطق في اضابير يلفها النسيان والتجاهل.
وفي الولاية الشمالية التي عرف أهلها بالزراعة والتفاني فيها وإتخاذها مصدر رزق متوارث على مر الأجيال بل أضحت لديهم في خانة العشق والألفة التي لا يمكن مقايضتها بمهن أخرى مهما علا ريعها المادي . وعندما تم إنشاء سد مروي بشر مسؤولو النظام البائد المواطنين في تلك المنطقة بكهربة كل المشاريع الزراعية بتعرفة أسمية وإمتداد خيرات السد لمناطق أخرى غير أن السد الذي كلف عدة مليارات من الدولارات لم يصل طاقته القصوى حتى الآن ، ولم تتحقق كهربة المشاريع بالقدر المطلوب رغم إنها كانت الخيار الأمثل لتحقيق النهضة الزراعية وعندما نشط المزراعون بجهدهم الخاص بعمل الآليات المعينة لإدخال الكهرباء في مشاريعهم حتى كللت خطواتهم بالنجاح بيد أنهم فوجئوا بزيادة كبيرة وغير متوقعة في تعرفة الاستهلاك بحجة إرتفاع قيمة الوقود الأمر الذي سبب قلقاً كبيراً لمزراعي الولاية الشمالية وحتى نهر النيل بإعتبار إن تلك التعرفة المرتفعة لقيمة فاتورة الكهرباء من شأنها أن تقفذ بتكلفة الإنتاج الزراعي بشكل جنوني مما يعني بأن مشاريعهم الزراعية مهددة بتوقف الإنتاج وهجر مهنتهم الرئيسة لكسب عيشهم وإرتباطها التاريخي بحياتهم وإرثهم المحلي .
وعند صدور التعرفة الجديدة للكهرباء التي أصدرتها وزارة المالية طالب المزارعون بمراجعتها لكن كل مطالباتهم لم تلاق إستجابةً من وزراة المالية ولا حتى السلطات الممثلة في مجلس السيادة الذي أعلن تجميد مؤقت لتفيذ التعرفة الجديدة لكنه سرعان ما وافق عليها وأصبحت قراراً على أرض الواقع ، ويرى المراقبون والمختصون في الشأن الإقتصادي أن الحكومة نظرت لإرتفاع تكلفة تشغيل الكهرباء وأغفلت المردود الذي تشكله الزراعة في الإقتصاد الوطني والقابلة للتطوير والتأهيل لزيادة إنتاجيتها فالنظر لمستقبل الزراعة لا تنظر إليه الدول عبر محدودية الواقع المعاش بل وفق رؤية إستراتيجية تهدف لتطوير القطاع والصبر عليه ودعمه حتى يشكل في سنوات قليلة رقماً كبيرأ ومؤثراً في دفع عجلة الإقتصاد القومي وهناك العديد من الدول باتت تعتمد على الزراعة في اقتصادها القومي مثل أوكرانيا رغم تقدمها الصناعي فهي ترفد العديد من الدول بصادرات القمح بما فيها بعض الدول العربية كدولة لبنان .
غير أن الحكومة ممثلة في وزارة المالية تعتبر الزراعة مثل كل القطاعات الإنتاجية الأخرى التي يمكن الضغط عليها وتحميلها عبء تخفيف العجز الإقتصادي دون النظر في خصوصيتها والإفاق المنتظرة منها حتى تتحول من جهة مدعومة إلى جهة داعمة في المستقبل القريب .
وكانت وزارة المالية قد أصدرت تعرفة الكهرباء وحددت مبلغ (26) جنية للكيلو واط الواحد دون الإلتفات لكل الإحتجاجات من مزارعي الولاية بل أن وزير الطاقة و النفط المكلف محمد عبدالله قال ( إنه من الصعب على الحكومة تقديم الدعم في الكهرباء بالطريقة القديمة في الظروف الحالية.
وأضاف عبد الله بحسب صحيفة (الانتباهة) الصادرة الأربعاء أمس أن الحكومة رفعت أسعار الكهرباء و أنها من بين عدد قليل من السلع التي لا تزال الحكومة تدعمها.
وتابع: (الحكومة تدرس مشروعات استثمارية في الطاقة الشمسية و طاقة الرياح لكنها تواجه صعوبة بسبب الدعم).
و أوضح عبدالله أن تغييرات الأسعار الجديدة تعني خفض الدعم في المتوسط من 95% إلى 69% مشيراً إلى أن ذلك في إطار برنامج مدته ثلاث سنوات لرفع الدعم.
وأردف إن قطاع الكهرباء سيكلف 2.4 مليار دولار إجمالاً لهذا العام مضيفاً أن الحكومة أبقت على معدلات دعم أعلى لفئات الاستهلاك الأقل حرصاً على عدم إثقال كاهل الأسر منخفضة الدخل بالأعباء.
إحتجاجات غاضبة
وعلى إثر ذلك أعلن أعلن تجمع مزارعي الولاية الشمالية أنه بعد تداول مستفيض قرر التجمع بالإجماع إغلاق الولاية الشمالية بشكل كامل، ووضع المتاريس على طريق شريان الشمال والطرق الأخرى في كل من الملتقى (الحامداب)، وتقاطع القرير بطريق (مروي – عطبرة – الخرطوم – بورتسودان)، بالإضافة إلى مداخل ومخارج مدينة دنقلا.
وكشف رئيس تجمع مزراعي الولاية الشمالية رضا السيد الإدريسي، في حديث لـ(اليوم التالي) أن التجمع إلتقى والي الشمالية لإبلاغه بالقرارات وتسليمه مذكرة لوضعه في الصورة بالخطوات التصعيدية التي قررها اجتماع التجمع تنفيذها.
وقال رضا: (أكد لنا الوالي أن حكومة الولاية ليس لديها حلاً لقضيتهم). وأوضح رضا أن التجمع أمهل الحكومة الإتحادية فترة (72) ساعةً بعدها سبتم الإغلاق بصورة شاملة، وقال: (قرار زيادة الكهرباء قصد بها الولاية لأن الحكومة الحالية بهذه الخطوة تريد أن تنهي الاستثمار الزراعي) .
مطالبة بالحكم الذاتي
ويبدو أن اليأس من استجابة الحكومة لمطالبهم المشروعة بتخفيض التعرفة الجديدة إلى أدنى حد قد دفعهم لتحويل قضيتهم من مسارها المطلبي إلى أجندة سياسية حينما طالب رئيس تجمع مزراعي الشمالية الإدريسي بتطبيق الحكم الذاتي وأضاف قائلاً: ( ولن نتراجع عنه حتى وإن عادت التعرفة بوضعها السابق).
المعروف إن تجربة الحكم الذاتي في السودان تم إقرارها لأول مرة كإطار لحل ازمة جنوب السودان في عام 1969م في الأشهر الأولي لإنقلاب جعفر النميري ثم تم تأطيرها رسمياً وفق إتفاقية أديس أبابا في عام 1972م بين حكومة السودان ومتمردي جنوب السودان بزعامة جويف لاقو وقد لاقت دعماً دولياً سيما من الولايات المتحدة قبل أن يتجدد التمرد بعد عشر سنوات في عام 1983م بقيادة العقيد جون قرنق بعد إعلان الحكومة لقرار تقسيم الولايات الجنوبية بشكل تعسفي فرضه المركز .
ثم حاولت حكومة البشير المخلوعة أن تقنع الحركة الشعبية في المفاوضات بتبني طرح الحكم الذاتي غير أن المفاوضات سارت في إتجاه تقرير المصير عبر إستفتاء لمواطني جنوب السودان أسفر كما هو معروف بإنفصال الأقليم .
وفي أعقاب إندلاع الحرب في دارفور وظهور الحركات المسلحة التي تقاتل الحكومة في عهد البشير حاولت الحكومة هذه المرة بالوصول لتفاهمات مع تلك الحركات بمعالجة قضايا الإختلالات في التنمية توزيع الثروة والمشاركة السياسية ثم أقرت حكماً ذاتياً لمنطقة النيل الأزرق بعد توقيع إتفاق مع زعيم الحركة الشعبية شمال بقيادة مالك عقار لكن سرعان ما إنقلبت الحكومة على الإتفاق وشنت حرباً ضد الحركة التي إنسحبت بقواتها وقادتها إلى إثيوبيا ليتم وئد الإتفاقية وإنفتاح أبواب الحرب بين الفريقين مجدداً .
إتفاقية جوبا للسلام
وبعد تفجير ثورة ديسمبر والإطاحة بحكومة المؤتمر الوطني برئاسة عمر البشير خاض الحكومة ممثلة في المكون العسكري في مفاوضات لحل أزمة دارفور حيث تمكنت من عقد إتفاقية سلام بمدينة جوبا عاصمة جنوب السودان بين الحركة الشعبية شمال بزعامة مالك عقار وحركة تحرير السودان برئاسة أركو مني مناوي حيث تم الإتفاق على الحكم الذاتي لدافور ومنطقة النيل الأزرق .
مطالب الشمالية بالحكم الذاتي
برزت بعض المطالب المحدودة بالحكم الذاتي عبر كيانات سياسية لا ترتكز إلى قواعد جماهيرية ولم تبارح دعوتهم حناجرهم آنذاك في بعد تفجير ثورة ديسمير ، غير أن مطالب مزراعي الولاية الشمالية بالحكم الذاتي وعدم حتى ربطها بمطلبهم الأساس تخفيض تعرفة الكهرباء المعلنة مؤخراً تمثل دعوة ربما ينظر إليها البعض كوسيلة ضغط إضافية لتحقيق مطلبهم الأساس البعيد عن المسار السياسي أو تعبير عن موجة غضب عابرة من جراء تجاهل مطالبهم الملحة المتعلقة بسبل كسبهم الرئيسي في الحياة .
لكن يرى المراقبون إن دعوة الحكم الذاتي في الشمال أو في أية ولاية أخرى لا يمكن لتيار أو فصيل مهني واحد يفتي حولها كما أن المؤتمر الدستوري القادم والذي تبنته الحكومة المدنية قبل قرارات الخامس والعشين من أكتوبر يفترض أن يكون جامعاً لكل مكونات الطيف السياسي والإجتماعي في السودان غير أن عقده الآن لا تؤيده قوى الثورة بإعتبار أن المؤتمر ينبغي أن يعقد في كنف حكم مدني تعددي يكفل الحريات بكافة أشكالها المشروعة .