الخرطوم : أحمد طه صديق
في بداية مارس 1985م إنطلقت شرارة الثورة ضد نظام جعفر نميري الذي إنتزع السلطة من نظام ديمقراطي منتخب عبر إنقلاب عسكري في عام 1969 ، كانت السفارة الأمريكية ترقب الأوضاع بقلق بالغ حيث كان النميري أحد حلفائها في المنطقة ويشكل حلفاً مع نظام مصر آنذاك بقيادة الرئيس حسني مبارك ، ويسرد أحد مسؤولي سلطة مايو عن تلك الأيام الأخيرة للنظام أنه إلتقى بالسفير الأمريكي الذي أخطره أن النظام يحتضر ثم قال بالإنجليزية ( time over ( أي فات الأوان لكبح زمام الأمور ويبدو أن بعض أحداث تاريخ السودان باتت صوراً متكررة تتسبب النخب السياسية أو العسكرية في إجترارها رغم مرارتها وقسوتها عبر الحقب الماضية ، فالآن بعد الخامس والعشرين من أكتوبر الماضي أصبح مستقبل البلاد ووحدتها في المجهول في ظل تمترس العسكر على مواقفهم وتكوين حكومة مدنية بتوافق غير مجمع عليه من قوى الثورة التي تعتبره شرعنة للإنقلاب وتكريس واقع جديد لمرحلة ما بعد الإنتخابات القادمة بينما تصر لجان المقاومة على رفضها لشراكة العسكر مجدداً وهي خطوة تجعل القبول الكبير من الشباب الثوري العريض وعدد كبير من القوى السياسية المتمثلة في أحزاب وتيار مركزية الحرية والتغيير وإن كانت ليست على قلب رجل واحد في تلك القضية ، فحزب الأمة بقيادة رئيسه يمثل إتجاهاً آخر لحل الأزمة بعودة الشراكة مع العسكريين مع بنود أخرى في حين تخالف هذه الدعوة تيارات داخل حزب الأمة لكن يبدو أن تيار زعيم الحزب المكلف هو الغالب حتى الآن .
مواقف متباينة
بينما ظلت مواقف الولايات المتحدة ودول الترويكا تؤيد حل الأزمة من خلال الشراكة مع العسكر وإن كانت لم تفصح عن هذه الرغبة بوضوح لكنها لم تشر صراحة إلى استبعاد الشراكة العسكرية وإبعاد المكون العسكري من المشهد السياسي ثم أعلنت مؤخراً تأييدها لخطوات الأمم المتحدة متمثلة في مندوبها في الخرطوم فولكر بيتيس رئيس بعثة دعم الديمقراطية في السودان ( يوناتميس) والتي أوردت بعض الدوائر الإعلامية نقلاً عن اسكاي نيوز بعض ملامح بنودها المتمثلة في (4) عناصر أساسية: أبرزها إلغاء مجلس السيادة والاستعاضة عنه بمجلس رئاسي شرفي يتكون من ثلاثة أعضاء مدنيين.
وذلك بالإضافة إلى منح العسكريين مجلساً مقترحاً للأمن والدفاع، ولكن تحت إشراف رئيس الوزراء الذي سيمنح سلطات تنفيذية كاملة تشمل تشكيل حكومة كفاءات مستقلة بالكامل مع إعطاء تمثيل أكبر للمرأة.
وقال مصدر مطلع في البعثة الدولية في الخرطوم إن المبادرة تقوم على تعديل الوثيقة الدستورية الموقعة في عام 2019م، التي ألغى قائد الجيش عبد الفتاح البرهان عدداً من بنودها الرئيسية ضمن الإجراءات التي إتخذها في 25 أكتوبر الماضي .
غير أن لجان المقاومة كانت قد أعلنت في وقت سابق أنها ستنظر فيها حين تعرض عليها لكن من الواضح من بنودها أنها لن تقرها بإعتبار أنها أعطت العسكريين مجلساً للأمن والدفاع أي أنها أقرت لهم بشراكة ما في المرحلة القادمة ، إذ أنهم وفق الإقتراح سيظل العسكريون مشرفين على جهازي الأمن والشرطة وستبقى صفة إشراف رئيس الوزراء على هذا المجلس صورية إذ أن الإشراف وإصدار الأوامر يكون تحت سلطة العسكريين فضلاً على أن هذا المقترح قد يواجه برفض من العسكريين بقيادة البرهان الذين يسعون أن يكون لهم دورسياسي مهم في الفترة الإنتقالية سيما بعد التعديلات التي أجروها في الوثيقة الدستورية .
لجان المقاومة والسفارة الأمريكية
أجرت قيادات من لجان المقاومة لقاءً مفاجئاً وغير معلن مع دبلوماسيين في السفارة الأمريكية، وقالت اللجان بعد الإجتماع الذي عقدوه إنها ماضية في مساعيها لاسقاط النظام ورفض المشاركة مع العسكريين، وأشار المكتب السياسي للجان المقاومة إلى أنه يتشاور الآن حول ميثاق (يحتوي على رؤية لقيادة البلاد مع الشركاء المؤمنين بالتحول الديمقراطي. وقالت إن لديها قيادة، لم يُعلن عنها حتى لا تتعرض للاعتقال).
واستفسرت لجان المقاومة المسؤولين الأمريكيين عن (جدوى التلويح بفرض عقوبات فردية على العسكريين دون الشروع في تنفيذها).
وأفادت أن الأمريكيين ردوا بأن (التلويح بالعقوبات يساهم في تقليل الإنتهاكات، ولكنهم يسعون إلى المزيد من الضغوط عليهم لإيقافها).
وبالرغم من أن الولايات المتحدة تعلم مواقف لجان المقاومة تجاه الأزمة لكنها فيما يبدو أنها تريد أن تحاول إيجاد قواسم مشتركة يمكن من خلالها إتخاذ موقف يسهم في فك جمودها المستعصية في السودان سيما فالولايات المتحدة تملك أوراق ضغط على العسكريين في مجال فرض العقوبات بيد أنها أيضاً لاتريد في ذات الوقت إبعاد العسكر تماماً عن المشهد السياسي لحفظ التوازن بين رايدكالية الشارع الثوري والعسكريين الذين يمكن أن يتعاطوا (البرغماتية) في نهجهم السياسي مثل حماسهم للتقرب مع الغرب وعدم تحرجهم في إنشاء علاقة مع إسرائيل ، بيد أن الولايات المتحدة تواجه ضغوطاً من بعض مناصري الديمقراطية في الكونغرس الأمريكي حيث أبدوا مؤخراً عدم رضائهم عن السياسة التي ينتهجها الرئيس بايدن تجاه أزمة السودان حيث قال السيناتور جيم ريش العضو البارز في لجنة العلاقات الخارجية بمجلس الشيوخ عقب استقالة رئيس الوزراء حمدوك في بيان أصدره عقب استقالة عبد الله حمدوك واستمرار العنف ضد المحتجين في السودان قال:
(إن استقالة رئيس الوزراء عبد الله حمدوك تكمل الإنقلاب العسكري الذي وقع في أكتوبرالذي أعاق العملية الإنتقالية المدنية والعسكرية الهشة ووصفه بأنه خيانة للشعب السوداني) ، بينما قال مايكل ماكول كبير الجمهوريين في لجنة العلاقات الخارجية في مجلس النواب، في تغريدة بشأن السودان طالب فيها الولايات المتحدة بإعادة تقييم إلتزاماتها، وتحديداً ما يقرب من مليار دولار من المساعدات الموعودة، وزاد (هذا فصل جديد، وعلى إدارة بايدن أن تقف إلى جانب شعب السودان بدلاً من التشدق به).
إذاَ إزاء ضغوط الكونغرس للبيت الأبيض تجاه إتخاذ مواقف متشددة وواضحة تجاه أزمة السودان فيما يتعلق باستعادة الحكم المدني يحاول الرئيس الأمريكي ودول التوريكا الإختباء خلف مبادرة أممية تحقق لهم بعض البنود السياسية فيما يتعلق باستمرار شراكة العسكريين بوجه جديد لا يسلبهم في ذات الوقت نفوذهم كما يحقق وجوداً تنفيذياً للمدنيين في الحكم ، بإعتبار أن مباركتهم للحل الأممي يعمل على تشكيل بوصلة عبور لأزمة السودان وصولاً لتحقيق الاستقرار السياسي والأمني والتحول الديمقراطي في مرحلة ما بعد الإنتخابات ، بيد أن عدداً من المراقبين لأزمة السودان في الداخل يخشون من استمرار الأوضاع الملتهبة بعد الرفض المتوقع لقوى الثورة الشبابية لأية مبادرة تحوي شراكة مع العسكر واستمرار العسكريين إلى نهاية الشوط الأخير من الفترة الإنتقالية وعقد إنتخابات تقاطعها معظم التيارات السياسية وقوى الثورة وتأتي بعناصر من خارج الرحم الثوري ولها مواقف مناوئة للتحول الديمقراطي واستعداد إنتهازي للتحالف مع مراكز القوى مما يعني وضع البلاد في منعطف يصعب التكهن بمآلاته .