*الحديث عن الشرق الأوسط ينطوي عادة على قناعة بعدم استقرار هذه المنطقة من العالم، وأنها في حالة اضطراب متواصل.
*يتجلى هذا الاضطراب بظواهر عديدة: أولها غياب التوافق بين حكام دول هذه المنطقة حول القضايا المهمة خصوصا على صعيد العلاقات الخارجية والعمل المشترك. ثانيها: ضآلة التوافق الداخلي واستمرار الشد والجذب حول نظام الحكم وشكله خصوصا مع تعدد أشكاله في بلدان المنطقة. ثالثها: تداخل الأدوار بين العسكريين والسياسيين بشكل يصعب تفكيكه أحيانا.
*فهل الجيش مؤسسة وطنية تحمي الحدود وتضمن العمل بالدستور أم هو خاضع لإرادة المتربعين على كراسي الحكم؟ وما حدود دور العسكر في الحياة السياسية؟
*رابعها: انسداد آفاق الحلول الوسط في أغلب القضايا، خصوصا مع غياب ثقافة الحوار والنقاش في الفضاء العام، ونتيجة «تأميم» وسائل الإعلام وإخضاعها لحماية النظام السياسي. خامسها: تقلص الحريات العامة المتاحة للمواطنين في أغلب البلدان، واستغلال ظاهرة الإرهاب لمصادرة تلك الحريات وتشديد قبضة أجهزة الأمن على المواطنين.
*سادسا: اضطراب السياسات الرسمية إزاء قضية فلسطين وانعدام وضوح الرؤية لدى الكثيرين إزاء المسؤولية الأخلاقية والسياسية تجاه الاحتلال، وتصاعد نغمة احتضانه والتخلي عن مواجهته. ومن المؤكد أن عقودا من تجاهل هذه القضية ربما ساهمت في تهميشها في الوجدان الشعبي، ولكنها ما تزال، في نظر بقايا المناضلين من كافة الأطياف الأيديولوجية والسياسية، غضّة طريّة كما كانت في بداية الاحتلال والتقسيم ونشوء الكيان الإسرائيلي الذي ترفض الاعتراف به.
*لقد انتهى العام الماضي على أنغام لا تختلف عما ألفته الملايين طوال أربعين عاما. فما يزال بعض الأنظمة يتحدث عن «المؤامرة الخارجية» أو «الخصوصية الثقافية» أو «المجالس المفتوحة» أو «عندنا كتاب الله يكفينا» لتبرير تجاهل المطالبات الشعبية بكتابة دساتيرها بأيديها، وإصرارها على التغيير والتحول الديمقراطي. وحل العام الجديد بواقع لا يختلف كثيرا في ظروفه وهموم الشارع العربي بشكل عام. ويُفترض أن تكون قضايا الأمن والاستقرار والنماء الاقتصادي قد تحققت وفقا للآلة الإعلامية التي تسعى لتجاوز الإصرار الشعبي على التغيير.
*ولكن أين هو الأمن الحقيقي في أي بلد عربي؟ أين هو أمن البلدان؟ وأين هو أمن الشعوب؟ وأين هو الأمن المساعد على التنمية وبناء الأوطان وتعميق الثقة بين المكونات المجتمعية؟ فحين يستمر سقوط القتلى في الاحتجاجات السودانية فماذا يعني ذلك؟ وحين يصبح الجنرال هو الرئيس، ويعتقل السياسي والأكاديمي وعالم الدين ورجل الإعلام والناشط الحقوقي، فما الذي بقي من معالم الدولة المدنية التي يفترض أن يكون الشعب شريكا أساسيا فيها؟ وعندما يتم تعليق الدستور التونسي ويتم حل البرلمان بقرار من شخص واحد إلى أجل غير مسمى، فأين هو الانجاز الذي استخدمه الغربيون لتبرير تقاعسهم عن دعم التحول الديمقراطي الحقيقي في تونس وسواها؟ فما الرهان القائم حاليا لدى حكومات الغرب؟ وما خطط حكام المنطقة لإقامة منظومات سياسية تحقق الأمن السياسي والنمو الاقتصادي والاستقرار النفسي لدى المواطنين؟ وربما السؤال الذي لا يقل أهمية: أين هي النخب المثقفة التي قادت في السابق حركة الاستقلال والتغيير وروّجت قيم وحدة الأمتين العربية والإسلامية واستقلال شعوبهما؟
*أين الأقلام التي تبث الأمل في نفوس آلاف المعتقلين السياسيين الذين يأمل النظام السياسي أن تنساهم قواعدهم الشعبية التي أثخنتها الجراح؟ لماذا يحتاج الأمر لتضحية بعض هؤلاء المعتقلين براحتهم فيضربون عن الطعام شهورا لكي تتحقق لهم مطالب محدودة؟ لماذا يجد معتقلو الرأي مثل هشام أبو هواش وخضرعدنان أنفسهم أمام خيار واحد: الإضراب عن الطعام والتضحية بصحتهم وأجسادهم شهورا لكي يتحرروا من الأسر؟ وأين هي أصوات النخب التي تتضامن مع الدكتور عبد الجليل السنكيس الذي أكمل حتى الآن ستة شهور مضربا عن الطعام في أحد سجون البحرين مطالبا بكتاب ثقافي قضى أربع سنوات لتأليفه في السجن ثم صودر منه؟
*ليس الهدف مما سبق جلد الذات او إلقاء اللوم على الأطراف التي تشعر، هي الأخرى، بالضيم والظلم. ولكن من الضرورة بمكان والعالم يبدأ عاما جديدا، إعادة فتح السجال حول قضايا عديدة تشترك في سبب جوهري مشترك: غياب الحريات وعسكرة الأوضاع. هذا السجال سيقود الى نتيجة مرعبة أظهرتها إعادة هيكلة الدولة العربية الحالية: إن البقاء لمن يطبّع مع الاحتلال ويتخلى عن فلسطين. فإن فعل ذلك حظي بدعم أمني وسياسي واقتصادي عن طريق تحالف قوى الثورة المضادة. وإلا ما الذي يضطر السودان لتغيير سياسته تجاه فلسطين، وهو البلد الذي انطلقت منه اللاءات الثلاث الشهيرة؟
ما بال جامعة الدول العربية ومنظمة التعاون الإسلامي عاجزتين عن إصدار مواقف تؤكد ثوابت الأمة خصوصا في مجال الحريات العامة والتحرر والتصدي للاحتلال؟ في تلك الحقبة كان بعض قادة النهضة التحررية الحديثة هدفا لأجهزة الاستخبارات الغربية (وكان آخر تأكيد لذلك ما صدر الأسبوع الماضي حول دور بلجيكا في اغتيال برينس لويس رواجاسور في اكتوبر 1961 بعد بضعة أسابيع من انتخابه رئيسا للوزراء في بوروندي).
*في ضوء تجربتي السودان وتونس الحاليتين أصبح الحديث الصريح عن دور العسكر في قمع تطلعات شعوب المنطقة يفرض نفسه في أي سجال حول التغيير السياسي في المنطقة العربية. وفي السنوات الأخيرة أصبح هناك صراع حاد بين أطروحتين: الأولى تسعى لمنح الشعوب حقها في اختيار نظامها السياسي وانتخاب حكومتها، والأخرى ترفض ذلك وتحاول مصادرة ذلك الحق بتسليط العسكر على الشعوب بعد شراء مواقف الجنرالات والضباط. هذا ما حدث في السودان عندما مارست دولة الإمارات دورا لشراء موقف عبد الفتاح البرهان ودفعه للانقلاب على الحكومة واعتقال رئيس وزرائها، عبد الله حمدوك.
*وبعد ضغوط دولية ومحلية بالتظاهرات العملاقة والاحتجاجات حاول البرهان الالتفاف باعادة حمدوك لرئاسة الوزراء. مع ذلك استمرت التظاهرات التي استخدم فيها الرصاص الحي وقتل خلالها عشرات المتظاهرين. وعندما أدرك حمدوك ان مشاركته في السلطة تحت ادارة الجنرالات ستوفر وجها مدنيا لحكم عسكري، استقال من منصبه، فأصبح الجنرالات أمام أزمة دستورية حادة، فاستمرت التظاهرات والاحتجاجات حتى الآن. ويمكن اعتبار الوضع السوداني بالون اختبار جديدا لتقييم مسار الحراكات الشعبية لتحقيق التغيير السياسي الذي لم يتحقق قبل عشرة اعوام. كما يمكن اعتباره مؤشرا لمدى قدرة قوى الثورة المضادة على تنفيذ خططها الهادفة لتحييد الشعوب وكسر إرادتها الهادفة للتغيير.
الأمر المؤكد ان مشروع قوى الثورة المضادة في السودان بدأ يتعثر وان المقاومة الشعبية للحكم العسكري تتفاقم بوتيرة لم يتوقعها العسكريون. ويمكن افتراض الساحة السودانية مضمارا لسباق غير مضمون النتائج للطرفين المتضادين في المعترك السياسي العربي في مجال الحريات. فان انتصرت إرادة العسكر فسوف تتوفر للجنرالات في البلدان الأخرى مثل تونس رغبة لمواصلة سياسة التصدري للإرادة الشعبية. ويمكن اعتبار تجربة الانقلاب العسكري في مصر معيارا لمدى نجاح المشروع الانقلابي. فبعد تسعة أعوام تراجع دور مصر القيادي على الصعيد العربي، والإداري على المستوى المحلي، بشكل أدى الى تهميش دور الدولة العربية الكبرى في مجال العمل العربي المشترك، وجعلها تحت رحمة قوى أقل شأنا وقوة.