في الأيام السالفة القليلة.. وفي ذكرى رحيل السيد الإمام الصادق الصديق المهدي؛ تبارت الأقلام المادحة لسيرته السياسية وسريرته الذاتية، وأسهبوا في ذكر سماحته وسعة صدره و اتساع أفقه الفكري وطيب معشره و حفاوته بالآخرين و تقبلهم وكرمه الفياض على الجميع، ولم يترك المادحين للأقلام ما تزيده على ما قالوا في مدحه والتذكير بكريم خصاله وأخلاقه الشخصية التي عُرف بها وما أنكرها حتى أشد أعدائه عداوة، وهذا لعمري يكفي السيد الإمام تخليداً ومدحاً، فكرم الأخلاق من أسباب رفقة الحبيب المصطفى بالجنة، و دين رسولنا صلى الله عليه و سلم جاءنا ليكمل فينا مكارم الأخلاق ، ومن كمُل وحسُن خلقه فقد اكتمل و خلُص دينه، وهل من مدح في حق ابن آدم أكثر من اكتمال الدين تبعاً للخلق !؟
عطفاً على المدح الكثيف الذي رفده به محبوه و أصدقاؤه وحتى أعداؤه في يوم شكره و تأبينه خلال الأسبوع الماضي، فإن لي في مدحه شأن مختلف، فأكثر ما أعجبني من صفات الراحل السيد الصادق المهدي في سيرته السياسية هو المبدئية الصارمة في التعاطي السياسي و ربطها بالبعد الأخلاقي والالتزام الديني في غالب مناحيها، و إن كان قد عاب بعض الناقمين على الإمام الصادق جمعه – في ظاهرة غير مألوفة – بين المقامين الأعلى في رئاسة حزب الأمة وإمامة كيان طائفة الأنصار الدينية في ذات الوقت ولسنين طويلة، فلربما فاتهم أن هذا الجمع بين المقامين هو مصدر هذه المبدئية الصارمة و الالتزام الأخلاقي العالي والحكمة البالغة وفي التعامل السياسي، بجانب اللطف النبيل و السماحة الصوفية المتفردة في التعامل الشخصي مع الآخرين.
ولفت نظري أيضاً في سيرته الجليلة جسارة مميزة؛ بجانب المبدئية الصارمة، فالإقدام على تولي مسؤوليات ثلاثة مقامات في آن واحد لا تتأتى إلا لجسور ، فقد كان رحمه الله (قائد الحزب) و (إمام الطائفة الدينية) و(المفكر الإسلامي الحر) في ذات الوقت، قد يحسب المرء ذلك (ديكتاتورية خفية) أو (مركزية غير محمودة)، إلا أن التصدي لها و القيام بأمرها على تمامه وتحمل تعبات ذلك يحتاج إلى جسارة وهمة ومثابرة منقطعة النظير ما توفرت في تاريخ الإنسانية إلا للقليل من القادة والمفكرين. كما أن ولوجه لساحة العراك الحزبي والسياسي في مقتبل عمره وشبابه، وربما قبل بلوغه السن القانونية لممارسة التمثيل النيابي كما يشاع، في فترة ساد فيها عمالقة الساسة السودانيين من أمثال الدكتور محمد أحمد المحجوب، قد أثبت جسارة وإقداماً ظاهرين، وهما من أهم صفات القادة النادرين القادرين على التأثير.
والدارس لمسيرة الإمام يلاحظ استفادته الكبيرة من تجاربه الشخصية وتجارب الآخرين من أقرانه في الساحة السياسية و الفكرية في مرونة محمودة رافضة للتكلس الفكري و السياسي الذي لازم كثيراً من أحزابنا وقوانا السياسية ، فهو في كل مرحلة من تاريخه السياسي نجده متقدماً عن المرحلة التي سبقتها ويظهر ذلك في التحسن المتسارع في ممارسته السياسية وفي منهجه الفكري على مراحل واضحة المعالم، فقد ظل كسبه وفعله السياسي والفكري يتنامى و يتصاعد كلما مر به الزمان، فالصادق الفتى اليافع في بدايات حياته السياسية اختلف كثيراً عنه بعد انقلاب مايو متقدماً خطوات للأمام مكتسباً خبرة و حنكة سياسية إضافية، و الصادق خلال فترة حكم مايو كمعارض بالسلاح و كمشارك في الحكم بالمصالحة الوطنية؛ خبِر العمل السياسي في تقلباته حرباً و صلحاً، و كسب خبرة العمل الجمعي بالاتحاد الاشتراكي والمنافحة بالحجة، فانتقل وعيه السياسي و التنظيمي درجاتٍ للأمام، و ظل الصادق – رحمه الله – في الديمقراطية الأخيرة مختلفاً عن مشاركته في مايو بتراكم خبراته في العمل التنظيمي، فقاد حزبه لتسنم قمة الكسب السياسي بنيله أعلى الأصوات و المقاعد في آخر برلمان منتخب ، و خبِر أسرار التحالفات السياسية متقدماً للأمام كذلك، والراحل الصادق بعد الإنقاذ، ظل يتقدم للأمام مستفيداً من كسبه السابق، فحارب حين وجبت الحرب، وسالم الإنقاذ حين وجد أن قتالها مضر بالوطن و بأمنه القومي، في حكمة قل نظيرها في أزمنة الميكافيلية السياسية الحالية، فأعلن (الجهاد المدني) و (سلمية المعارضة) وأصبح عرابها و مفكرها و منظرها الأول و ظل على عهده بالجهاد المدني حتى لقي ربه، رغم ما وجده من تهجم و تهكم المعارضين لنهجه السلمي؛ واصفين له بإمام (الهبوط الناعم).
ألا رحم الله إمام المبدئية الصارمة والأخلاقية السياسية العالية و إمام الجسارة والإقدام و الشجاعة في التصدي للمهام الجسام، و إمام الحرية و الديمقراطية والجهاد المدني والمعارضة السلمية، إمام القبض على جمر قضايا الأمة الإسلامية في أزمنة الخذلان، إمام الوسطية و الاعتدال، ألا و رحم الله السودان و أهله و قد خلت ساحتنا السياسية من أمثاله.
اماني ايلا
صحيفة اليوم التالي