غير مصنف

العبيد مروح يكتب: حكومة حمدوك الثانية: إسألوا عن العجز مخافة أن يدرككم!!

في القصة المشهورة – على زماننا – أن طالباً في المرحلة الثانوية كان يعتمد في أداء الإمتحانات لا على المذاكرة الشاملة وإنما على التوقعات للأسئلة، أي ما يُعرف بال (Spotting ) والذي غالباً ما يصيب. وحيث كان مقرر مادة التاريخ في الصف الأول ثانوي عن تاريخ أوروبا، فقد توقع الطالب أن يكون أحد الأسئلة هو التحدث عن ( سياسة بسمارك الخارجية) فاستعدّ لذلك ، غير أن السؤال أتى مخالفاً بعض الشئ، إذ جاء في صيغة: تحدث عن سياسة بسمارك الداخلية !!

فكّر الطالب في الأمر ملياً ، وقدّر أنه من الحكمة ألا يتورط في أمر لا يعرف عنه إلاّ القليل، ثمّ اهتدى إلى فكرته التي صارت مثلاً، حيث كتب في بداية الإجابة: (قبل أن نتحدث عن سياسة بسمارك الداخلية لا بُد أن نتحدث عن سياسته الخارجية). ثمّ انخرط يجيب على السؤال الذي يعرف إجابته، وليترك لأستاذ مادة التاريخ أن يقدّر الدرجة التي سيمنحه لها.

تذكرت هذه القصة وأنا أفكر في الكتابة عن حكومة الدكتور عبد الله حمدوك الثانية ( القادمة ) والتي ظللنا ننتظر تشكيلها منذ أواسط نوفمبر من العام الماضي، وفق ما جاء في المصفوفة التي وقع عليها أطراف “سلام جوبا”، ولنرى كيف سيترجم شركاء السلام أحاديثهم عن اختيار الكفاءات الحزبية وغير الحزبية، وعن ضبط الصرف على أجهزة الدولة وعدم ترهلها، وعن تلبية تطلعات الناس وأشواقهم في الكرامة والحرية والعيش الكريم، ولمّا طال انتظاري، رأيت أن أذهب مذهب صاحب المثل السائر أعلاه، فأكتب عن حكومة حمدوك الأولى، قبل أن يأتي وقت الحديث عن حكومة حمدوك الثانية، فلربما وجد أحد المعنيين بأمر التشكيل الثاني ، في حديثي هذا ما يعينه على تجنب العجز الذي وَسَمَ أداء الحكومة الأولى !!

2
كان معارضو حكم الإنقاذ، في سنواته الأولى، ومن باب السخرية من أدائه، يقولون لأهل الحكم “رجعونا محل ما أنقذتونا” ، وهذه العبارة – من وجهة نظر أصحابها ، وبغض النظر عن دقة وصفها للواقع من عدمه – كانت تلخص تقييمهم لأداء أجهزة الدولة، أي أن “الوضع الذي كنّا فيه أفضل ممّا أنقذتمونا إليه”. ولست أدري على أيّ وجه ستكون المقارنة بين حال الناس اليوم ،حيث يتولى أصحاب تلك المقولة زمام الأمور في البلاد، وبين الحال الذي كان عليه الناس أيام حكم الإنقاذ، ولصالح مَن تكون المقارنة إن أردنا عقدها ؟
المقارنة الموضوعية، ليست عملاً سهلاً ، وإنما تحتاج إلى شجاعة وإلى قدرة على تنحية الميول الأيديولوجية والمواقف السياسية المسبقة ليتمكن المُقَيّم من رؤية الأمور من مختلف الزوايا، وهذه مهمة تتطلب أدوات قياس متفق عليها حتى لا يكون الحديث مجرد “طق حنك” !!

3
النتيجة التي يرجوها كل مواطن، صالحاً كان أم طالحاً ، مؤيداً للحاكم أو معارضاً أو لا شأن له بهذا أو ذاك، تتم ترجمتها – في حدّها الأدنى – على مستوى الحكم المحلي، أي مستوى البلديات أو المحليات. فالمواطن يريد خدمات مياه وكهرباء، لا مقطوعة ولا ممنوعة، ويريد خدمات صحة وتعليم، في متناول الفقير قبل الغني، ويريد خدمات بيئة ونظافة، من صرفٍ صحي وسطحي ونقل منتظم للنفايات ، ويريد وفرة في خبزه اليومي وغاز الطبخ وبقية مكونات “قفة الملاح”، ويريد أسواقاً منظمة وأسعاراً في مقدوره ووسائل مواصلات عامة وطرقاً معبدة ووفرة في الوقود، ويريد مع هذا الأمن والأمان.
الحديث هنا ليس عن اليُسر في خدمات المصارف ولا عن تشجيع ريادة الأعمال ولا عن تمويل القطاعات الناشئة ولا عن سهولة خدمات الاستيراد والتصدير ولا عن خدمات السفر والسياحة ولا عن توفر خدمات الإنترنت ذات النطاق العريض.
مجموع هذا وذاك، وسهولة حصول المواطن عليه باعتباره حقاً وليس منحة، هو ما يُسمى ب “العيش الكريم”، في حده الأدنى والذي يستحقه المواطن . وبقدر قدرة الأنظمة والحكومات على توفيره واستدامته بقدر ما تستحق الثناء والتقريظ أو النقد والتقريع.

4
وحين نريد أن نقيّم هذا النوع من الأداء لفترة الحكم الحالية، نحتاج أن نُعمل معياراً موضوعياً يسهل التحاكم إليه، وننظر ما إذا كانت الخدمات المستحَقة للمواطنين قد تحسّنت مما كانت عليه في فترة حكومة الدكتور عبد الله حمدوك الأولى هذه أم أنها بقيت على حالها أم تراجعت؟
بعبارة أخرى هل أفلحت حكومة حمدوك الأولى في انتشالنا من “الحفرة” التي قالت إنها وجدت البلاد فيها، أم أننا نقترب من السقف أم أنها قد أهالت علينا التراب ؟ ولننظر أين كانت قدرة الناس للوصول إلى ذلك الحد الأدنى من “العيش الكريم” وكيف أصبحت الآن ؟
قد يُذكّرنا قائل بمقولة “ليس بالخبز وحده يحيا الإنسان”، ويقول لنا إن الثورة جاءت لترسيخ القيم الإنسانية لا لتلبية الحاجات المادية، ودون أن نخوض في جدلٍ غير مجدٍ نقول لأصحاب هذا المنطق أنه
حين تولى قادة التغيير في بلادنا أمر الناس، وعدونا بانتشالنا من واقع الخدمات المتراجعة والشحيحة إلى أفق الوفرة والرخاء، ومن ضيق الحريات العامة والأصوات المحدودة إلى أفق الأصوات المتعددة والحريات التي بلا سقوفات، ومن ضيق السجون لمخالفي الرأي إلى الفضاء الذي لا تحده إلا سلطة القانون والقضاء العادل. وبدا لنا أن بلادنا ستنتقل بين عشية وضحاها من “سجن كبير” إلى جنة تهفو إليها قلوب العالمين، فانظر ، يا هداك الله، هل نحن نقترب من الثريا أم نزال نخوض في وحل الثرى !!

5
المنطق يقول، وبالقياس على أقوال الحاكمين أنفسهم، أنه بعد مضي ستة عشر شهراً من عمر الحكومة الإنتقالية المدنية، أنه من المفترض أن تكون حكومتنا الرشيدة انتشلتنا من الحفرة التي قالت إنها وجدتنا فيها حين تولت زمام الأمور ،وأنها أفلحت في ردم تلك الحفرة وأسست لبنيان جديد يشرئب إلى مناطحة السحاب.
والواقع يقول إن حكومتنا – بشقيها المدني والعسكري – وكما تقول هي لا أنا، لم تستطع فعل شئ، ولو كان هذا الشئ هو وقف التدهور والتراجع، فبدلاً من عمق الحفرة الذي قال عنه السيد رئيس الوزراء ذات مرة أنه يساوي ستين مليار دولار، ها هو يصبح الآن أكثر من مائة مليار !!
نحن الآن – وأعني سكان المدن والحواضر – نعيش تطبيعاً من نوعٍ آخر . فحياتنا ، رويداً رويداً، تتطبع مع الظلام ومع صفوف البنزين والجازولين والغاز والخبز، ومع أكوام القمامة والبعوض والذباب ومع شح الخدمات الصحية وندرة الدواء .. بعبارة أخرى، حياتنا تتطبع مع الندرة ومع الرداءة والقبح !!
أما أمُّ المشكلات فهي أن حكومة حمدوك الأولى لا ترى في كل هذا الواقع المرير إلا “تركة” من آثار النظام السابق، ولا ترى في أي ناصح أو ناقد إلاّ شخصاً يجره الحنين إلى ذلك النظام، ثمّ هي تقف عند هذا الحد فلا تكلف نفسها عناء الشرح للناس كيف وصلنا إلى هذا الوضع وهل كان بالإمكان تجنبه أم هو قدرٌ لا مفرّ منه، حتى بات الناس ينفضون من حولها جماعات وفرادى.

6
تحتاج حكومة حمدوك الثانية (القادمة) إلى أخذ العبرة عمرنا الذى مضى وضاع هدراً ،وأن تحوّل الخسائر إلى فرص وتعرف أين ومتى ضلت الطريق وأين يكمن الحل.
فمن المؤكد أن الحل ليس في “البل” ولا في “التطبيع”. الحل في رؤية واقعية لحقيقة أن مشكلتنا بالأساس هي مشكلة سياسية، تلبس تارة ثوب الثقافة وتارة أخرى ثوب الإقتصاد والاجتماع، وأنه ما من نظام أراد حكم هذا البلد الواسع المتعدد في ثرواته وثقافاته وأعراقه، برؤية أحادية ضيقة إلا وكان الفشل هو النتيجة الحتمية التي ينتهي إليها، وأنه ما من تجربة إنتقالية أرادت أن تؤطر الناس على رؤية واحدة لمستقبلهم إلا وانتهت إما إلى ذهاب ريح منظريها أو إلى ذهاب ريح البلد كلها ، طالت الفترة أم قصرت. ويكفي أن ننظر إلى جوارنا القريب لنأخذ العبرة .
ولهذا فإنني أرجو أن يكون حديث السيد رئيس الوزراء وشركاؤه الجدد عن “تصفير عداد الفترة الإنتقالية” حديثاً له ما بعده، فتصفير العداد لا يعني جعل لونه أصفر، وإنما يعني إعادة البناء على أسس جديدة، والأسس الجديدة يضعها أناس ليسوا محل خلاف ويرضى عنها كل الناس إلا مَن أبى.

اضغط هنا للانضمام الى مجموعاتنا في واتساب

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى