غير مصنف

إيمان كمال الدين تكتب: (شتاءُ القلوب)

شتاءُ القلوب

تقول صديقتي وهي تُرسل بعضٌ من سلامها لي ذات مساء: لقد انتزعنا قلوبنا وتركناها عُرضةً للجفاف في هذا الشتاء.

أتساءل تُرى أيّ شتاءٌ هذا؟ أهو الفصل الذيّ يمرُ علينا عامًا تلو آخر، أم أنهُ شتاء القلوب الذيّ لم يُمر عليه بعد، ربيعٌ أو صيف أو حتى خريفٌ تتساقط فيه خيباتنا خيبةٌ تلو أخرى.
أم أن الشتاء قلوبٌ آوينها ولم تأوينا.
وقد قيل يومًا، إنّ الحقيقة هي المكان الآمن للوقوف عليه. ولكن..! لا أحد يقف في هذا المكان ولا حتى نحن.

نحمل ذات الملامح، ذات القصص، ذات البدايات وشيءٌ من النهايات، لكن لا أحد منا يُخفف في طريقه وطأة الرحيل، بعضهم يمضي بلا أقدام ولكن..!

مثلك أنا وجميعنا متشابهون، جالسٌ أنت على مكتبك تجني بعض المال، تقرأ كتابًا، أو تنظر إلى شاشة حاسوبك وأنت لا تطالع إلا تلك الوجوه الصماء، مهما علت ضحكاتهم.

مثلك أنا وجميعنا متشابهون، مستلقيةٌ أنتِ على فراشك تحدقين في السماء تفكرين في حبيب ما، تذكرين رسائله ووعود الإخلاص تظنين أنه صادق، وإن بعض الظن إثم.

مثلك أنا وجميعنا متشابهون، نائمٌ أنت على الأرض، تفترشها وتلتحف السماء تظن أنك أتعس أهل الأرض، وإن بعض الظن إثم.
مثلك أنا وجميعنا متشابهون، مستلقي أنت على فراش وثير تحدق في نجفة ذهبية مضيئة، تشعر بالضجر من هواء المكيف، تتقلب يمنةً ويسرة لا يجد النوم طريقًا إليك، تظن أنك أتعس أهل الأرض، تتمنى فقط لو تنام قليلًا، وظنك هذا قد يكون كل الأثم.

مثلكِ أنا وجميعنا متشابهون، صامتةٌ أنت تتدثرين بالكلمات، تصوغين قصصًا وحكايا مبنيةً للمجهول، تسيرين قرب الشاطيء من حينٍ إلى حين، تنادين حيًا، ولكن لا حياة لمن تنادي، تحلُمين بتسلق الجبل، تسيرين في العتمة لا ترين شيئًا، والبعض يبصر في العتمة ويتوه آخرون في النور.

تتمنين كل يوم أن تكتبي حكايتك مبنية للمعلوم، تظنين في ذلك الخلاص، ولا تدركين أن أسوء قصص الحب تلك التي أنتهت بالصمت، بلا كلمة أخيرة، ليبقى الجميع عالقون، فتظنين وإن بعض الظن إثم، أنك العالقة الوحيدة على كوكب الأرض بلا نهاية.

مثلك نحن، سجينٌ أنت بقضبان أو بدون قبضان، حين لا ترى من العالم إلا مد بصرك، حين تتوارى الروح في تلك البقعة العمياء، سجينٌ أنت ظلمًا، أو قصاصًا لجرم ما، سجين ذاتك، أو سجين جدران.
ليس لكل السجون قضبان وأسوأها التي بلا قضبان.

مثلك أنا، وأنت تتوق إلى وحدةٍ مع نفسك ثم تفر منها، خوفًا من ذلك الألم المستوطن كالسرطان أن يكبر فينتشر، وربما خوفًا من الشفاء.
مثلك نحن وجميعنا متشابهون.
نملك شيء من ذات البدايات، ما دمنا نملك ذات الفطرة (ما من مولود إلا يولد على الفطرة).

ستكون بنصف وعي إذا لم تدرك أن ما أصابك ما كان ليخطئك وما أخطأك ما كان ليصيبك، ستكون بلا وعى إذا أدركت فقط أن ما أصابك لا يعني سوى سلامة نفسك.
ستكون واعيا إن أدركت في غيبوبتك الصغيرة هذه ما غاب عنك في زخم الحياة من معنى ومن إيمان.

مثلكم أنا، نتوق إلى قلبٍ صادق، إلى أذنٌ تنصت، إلى عين لا ترى وجوهنا، إلى وطنًا يحتوينا، وشتاءٍ أخير.

نبكي متى نلزم البكاء، نضحك متى أمتلكنا القدرة على ذلك من الأعماق، نحبُ بلا خوف، نتوق ليس إلى المدينة الفاضلة بداخلنا، بل إلى تلك الروح التي توارت خلف قضبان مرئية ولا مرئية.
نظنُ وإن بعض الظن إثم أن هذا الإنسان لا وجود له، سيكون علينا أن نلجأ في عتمة الليل لمن لا ملجأ منه إلا إليه وأن لا ننسى أننا جميعاً متشابهون

اضغط هنا للانضمام الى مجموعاتنا في واتساب

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى