قبل عدة اعوام كنت قد كتبت ساخرة انه سيأتي يوم اكتب فيه كتاب بعنوان (الالم في مواضع الكلم ) ..اجمع فيه تصريحات ..وكلمات لمسؤولين او اعضاء لجان ..يخرجون علينا بكلمات ..اما اصابتنا بحيرة او اصابتنا في مقتل ..وفي الحالتين (انا الضايع وما للاقي البينصفني )..في لقاء صحفي مع احدى عضوات تجمع المهنيين ..قالت ان الاعلان المرفوع هو ( فصل الدين عن الدولة والسياسة ..وليس علمانية الدولة) ..ماذا يعني هذا ؟ الا تفسير الماء بعد الجهد بالماء ؟..ليه يا ناس تجمع المهنيين المستنيرين ..المتعلمين اولاد المدارس لا تقولون بصريح العبارة ما يدور في اذهانكم ؟ لماذا تظلون مبهمين رافعين شعار (ما قادر اقول ما بقدر اصرح ؟)
لا ادري لماذا يتخوف الناس من كلمة علمانية هذه ؟ وماهي المشكلة في التصريح بوضوح بمعناها وشرح كيفية وحيثيات طرحها كحل لبلاد متعددة الثقافات والاعراق مثل السودان ؟ ..العلمانية ليست شرا خالصا ..ولا هي عدوة للديانات ..فالعلمانية مطبقة في بلاد يعتبرها الاسلاميون القدوة ..مثل تركيا ..التي اتت الديمقراطية العلمانية فيها بحزب له اتجاهات اسلامية واضحة ..وبشخص رجب طيب اردوغان الذي يعتبر ايقونة في عرف الاسلاميين .
لذلك اقول بما ان (زمن الغتغتة والدسديس انتهى) .. يا جماعة نحن طول عمرنا كنا نعيش في دولة ترفع شعار (ما لله لله وما لقيصر لقيصر)..وان كنا نطلق عليه التسامح الديني ..كنا نعيش متجاورين مع الاقباط ..نزاملهم في المدارس والجامعات ..ندرس كل المواد معا ولا نفترق الا عند حصة الدين ..يخرجون في هذه المدة ..ويعودون بعدها ..كان اسم المادة التربية الدينية ..يجلسون للامتحان في الكنيسة ..في ذات الزمن الذي نجلس فيه لامتحان التربية الاسلامية ..كانت الاجازات في اعياد الفطر والاضحى والكريسماس وشم النسيم ..لم نكن نتدخل في شئ يخص اعتقادهم ولا هم كانوا يتدخلون في شئ يخصنا ..كانت اجراس الكانئس شيئا مألوفا يوم الاحد ..كان الدين لله والوطن للجميع.
طوال عمرنا عشنا علمانية الدولة في الحياة وفي المؤسسات الرسمية والمعاملات ..وكان الدستور يعترف بالديانات السماوية للمواطنين السودانيين ويحترم التقاليد والاعراف ..حتى اتت الانقاذ ورفعت شعار الدين الاسلامي .. عادي يعني .. فالاسلام الصحيح …لا يظلم عنده احد ولا يجور على حق احد ..وفي فجر الاسلام عاش اصحاب الديانات المختلفة تحت ظله ولم يضاموا ..لكن الدولة السودانية التي رفعت شعار الدين ..لم تطبقه في المعاملات الرسمية والاقتصاد ومعاش الناس …فالبنوك التي الحقت كلمة اسلامي باسمائها.. كان بينها وبين الاسلام (فراسخ ..وفراسخ )..كانت بنوك ربوية بامتياز ..ولم يعرف السودان بنكا يتعامل بالنظام الاسلامي الصحيح حتى تاريخه ..بل نزيدك من الشعر بيت ..كل القروض التي تداولتها الدولة الاسلامية التي كان يصرخ اعضاؤها بعبارة (شريعة شريعة ولا نموت) كلها كانت قروض ربوية ..ولا تزال دولتنا مكبلة بتراكم ارباحها التي تزيد مع كل دقيقة تمر…
الشاهد في الامر ..ان الشريعة الاسلامية لم تكن مرجعية في المعاملات الرسمية بل ظهرت قوانين ما انزل الله بها من سلطان مثل قانون التحلل ..وصار باستطاعة اي موظف اختلاس مبلغ كبير من المال العام ..وتدويره ومن ثم اعادة رأس المال بكل هدوء والانتفاع بالارباح …ولا عزاء للشعب ..والمشكلة ليست هنا ..المشكلة ان السجون كانت مليئة بأولئك الذين سرقوا رغيفا او دجاجة لانهم لم يجدوا مايسدوا به الرمق.
الشريعة الاسلامية كانت مرجعية في الاحوال الشخصية وقوانين المواريث وهذه كانت منذ ايام الاستعمار يتم الاحتكام اليها وتطبق على المسلمين اما غيرهم فكل يحتكم لمعتقده ..ولا تزال الشريعة الاسلامية مرجعية..وستظل هكذا الى يوم يبعثون ..
طيب سؤال مهم ..هل العلمانية تعني الانحلال والفوضى ؟ ..لا بالتأكيد ..العلمانية التي نريدها تفرض عليك احترام معتقدات الآخرين وتطالبهم ايضا باحترام معتقدك ..وبما ان الاسلام هو دين غالبية اهل البلد ..فذلك يعني بالضرورة ان يكون الدين الرسمي للبلاد لكن ذلك لا يعني تغييب البقية ولا انتقاص حقهم في ممارسة شعائرهم او التقليل من شأنهم او التضييق عليهم بأي حال من الاحوال .. فهم مواطنون سودانيون كاملي الأهلية والحقوق والواجبات ..
بناء على ما سبق شرحه ارجو شاكرة ان يتفضل الاخوة في تجمع المهنيين بطرح رؤيتهم كاملة (كدا بالواضح و ما بالدس ) ..بدلا عن انكار العلمانية وإطلاق اسم الدلع عليها (فصل الدين عن الدولة ) ..لكن لو واصلتم في اطلاق مثل تلك التصريحات التي ترفع الضغط وتزيد الحيرة بالله لو سمحتم اصرفوا لينا معاها (دربات وحبوب ) ..ذلك ان قلوبنا الصغيرة (لا تحتمل )
صحيفة الجريدة