السودان اليوم:
كما تعلمون فان التطور الطبيعي لأي جماعة سياسية أو عقائدية يتم في فضاءات الممارسة التواصلية والتفاعلية مع الآخر المغاير فكريا وسياسيا وفي مناخ تسوده الحرية والطلاقة الفكرية، اما اذا اختارت الفكرة او الايديولوجية الصعود إلى منصات الحكم عبر التغلب الأحادي، حتى ان تحولت تلك الفكرة أو الايديولوجيا الى كتلة اجتماعية تنزع لصبغ كل المجتمع بلونيتها، وتسمه بميسمها عندها حتما ستتعطل عملية التدافع في الحياة، ويغدو المجتمع جاثما تحت وطأة الاحادية الفكرية والسياسية، وان تلبست هذه الاحادية بالشعارات الدينية والقومية والوطنية.
ان الاصل ان تستمد الايديولوجية او الجماعة السياسية مشروعيتها من المجتمع الذي تنمو فيه وتتفاعل معه،في براديغم متوافق عليه من الجميع
ان الثنائية والتعدد والتنوع ضرورة للثراء والحيوية والمنافسة في كل المجاﻻت الثقافية والحضارية والسياسية فالذاكرة التاريخية حفظت القطبية الثنائية منذ ابكار التاريخ فكانت فارس وروما واليونان والرومان، وانجلترا وفرنسا، امريكا والسوفيت وحاليا أمريكا وروسيا من جديد، والنهضة الاقتصادية الغربية لم تبنى الا في ظل عبقرية التنافسية والثنائية بين المدرسة الاشتراكية والرأسمالية، والراسمالية لم تبلغ ذروتها وقمتها الا نتيجة التفاعﻻت الداخلية الحرة في سياقاتها التاريخية فكانت مدرسة التغيير الذاتي للاقتصاد (ميكانيزم اليد الخفية) وفي طليعتها الاقتصادي الفذ ادم سميث، وتشكلت مدرسة تدخل الدولة في المنعطفات الاقتصادية الحرجة لاستعادة التوازن وفي طليعتها الفذ جون مينارد كينز او ما عرفت بالمدرسة الكينزية حتى بلغت الراسمالية كمدرسة اقتصادية تنزع إلى تعميم نموذجها في العالم
ان الشاهد كلما تداعت اقطاب القوة في تشكلها وتفاعلها الى حالة التوازن كان نسق الاجتماع ارقى واسمى وكلما اختل نزوعا نحو الاحادية اشتد الصراع والتشظي والتفكك
أن الاحادية تنمو في انسجتها الداخلية عوامل فناءها باعتبارها براديغم مختل، وعوامل الفناء تنمو باضطراد مع ازدياد هيمنتها وسيطرتها المتوهمة على ادوات الحكم والمجتمع
ونهايتها وسقوطها استجابة حتمية لنواميس التغيير الطبيعي.
وان كان ذلك كذلك فإن ثمة فارق كبير بين الثورة والهوجة، فالهوجة هي العقلية التي تتحرك بها حاليا (قوى الحرية والتغيير) لأنها عقلية تنزع إلى اجتثاث الصالح والطالح لتمكين ذاتها وقياداتها ورؤيتها في الحكم يعني محض إحلال وابدال، اما الثورة الذكية فهي تبقي على النافع والصالح وتستلهم منه الفاعلية والاستمرارية وتقضي على البالي والفاسد والثورة التي تنزع لإقصاء وعزل الآخر وطرده من ساحة الاعتصام لمجرد الاختلاف في الرأي ووجهات النظر التي شأنها غرس قيم الثورة ومطلوبات بناء الأمة والدولة غالبا ما تنتهي إلى شمولية جديدة واستبدال استبداد باستبداد.
أن نتائج عقلية الإقصاء والعزل التي تمارسها قوى الحرية والتغيير، اما ان تؤدي إلى إجهاض الثورة والهبة الحالية، لأن العقل الاقصائي حتما سيرتد إلى ذات مكونات قوى الحرية والتغيير وسيفضي إلى بروز التناقضات في بنيته الداخلية والتي ستؤدي إلى تفكيك وانهيار هذا التحالف الهش في بنيته غير المتجانسة فكريا وسياسيا
أو تؤدي إلى انقلاب ثالث مضاد، أو صعود المجلس العسكري بقوة الدفع والتأييد والدعم الخارجي للحكم بعد خلعه للبزة العسكرية وارتداءه العباءة المدنية والتحالف مع ذات مكونات الدولة العميقة بعد إجراء تغييرات على مستوى القيادات والرؤية والسياسات، والسيناريو الأسوأ أن تفضي حالة الاستقطاب الحاد الماثلة إلى فوضوية شاملة وحرب الكل ضد الكل وانهيار الدولة السودانية.
ان تجاوز الحالة الصفرية الماثلة تستدعي توافق كل القوى السياسية الوطنية يمينها ويسارها ووسطها، وعلمانييها وليبرالييها ووحركاتها المسلحة واسلامييها،ولا دينييها وتشكيل الكتلة الوطنية التاريخية لإنجاز مهام المرحلة الانتقالية، وضرورة استمرار التوافق الاستراتيجي لهذه الكتلة التاريخية لأطول فترة ممكنة لترسيخ المشروع الوطني الديمقراطي كثقافة ومأسسة في المجتمع.
The post بين الثورة والهوجة .. ما المخرج؟.. بقلم عثمان جلال appeared first on السودان اليوم.