تشكيل مؤسسات الفترة الانتقالية كما حددتها الوثيقة الدستورية وحسابات الفشل والنجاح.. بقلم د. أبوذر الغفاري بشير عبد الحبيب
السودان اليوم:
منذ أن استقر نظام الدولة الديمقراطية الحديثة وتنزلت أحكامه على وقائع النظم السياسية كان مبدأ الفصل بين السلطات أحد ركائزه الأساسية، ويشير في مفهومه الأدنى إلى توزيع مظاهر السلطة إلى أجهزة وهيئات متعددة حتى لا تستأثر أحد الهيئات بالسلطة، مما يضر بكل عمل الدولة. وعبر عن هذا الفهم مونتسيكو صاحب “روح القوانين” وفيلسوف الثورة الفرنسية: (كل إنسان يمسك بالسلطة يميل إلى إساءة استعمالها، ولا يتوقف إلا عندما يجد أمامه حدودًا) و (لمنع إساءة استعمال السلطة يجب ترتيب الأمور بحيث توقف السلطة السلطة).
وقد أخذت الدساتير الحديثة بهذا المبدأ على اختلاف في مستويات التطبيق بما في ذلك النظم الرئاسية والنظم البرلمانية على السواء. وراعت الوثيقة الدستورية للفترة الانتقالية هذا المبدأ وسعت إلى تنزيله في مستويات يمكن القول إنها كانت حالمة ومثالية، فقد كانت آمال الثوار مفعمة بأشواق ساخنة، لبناء دولة ترسي حكم القانون وتنهي سلطة الجهة الواحدة إلى الأبد. وذهبت الوثيقة الدستورية إلى أبعد من ذلك فوضعت قيوداً زمنية وخارطة طريق يتم من خلالها إحالة هذه الأشواق إلى واقع عملي.
والآن بعد مرور ما يقارب ثلث الفترة الانتقالية والمقررة في مجموعها بثلاث سنوات، نجرد حسابات تطبيقنا لمبدأ الفصل بين السلطات والذي يتضمن قيام مؤسسات مستقلة تتقاسم مهام الأداء المؤسسي في الدولة، فلا نلحظ إلا فشلاً مزرياً، وإخفاقاً لا يليق بالأحلام الكبار التي أفرزتها الثورة، يتعين تداركه على وجه السرعة، لتحقيق مطلوبات الفترة الانتقالية. ويظهر فشلنا في إدارة إقامة البناء المؤسسي فيما يلي:
1- نصت الوثيقة الدستورية في البند (4) من المادة (25) على تشكيل المجلس التشريعي الانتقالي ومباشرة مهامه في فترة لا تتجاز تسعين يوماً من تاريخ التوقيع على الوثيقة، وقد تم التوقيع على الوثيقة وفقاً للنص المعتمد لدى وزارة العدل والمنشور في الجريدة الرسمية، في 17 أغسطس 2019. وعليه فقد مر ما يربو على عشرة أشهر على الالتزام الدستوري، والمجلس التشريعي حلم في طي الغيب. مما يشكل خرقاً دستورياً لا يستند على أي أساس.
ورغم أن العذر السياسي الذي تم الاستناد إليه لتأجيل تشكيل المجلس التشريعي هو إتاحة الفرصة للاتفاق مع الحركات المسلحة على التأجيل ريثما يتم التوصل لاتفاق سلام معها، إلا أن هذا الاتفاق يجب أن لا يغيب بسببه المجلس التشريعي تماماً، وذلك تفادياً للخرق الدستوري الضار، الذي أهدر مبدأ توزيع السلطات بين أجهزة السلطة الانتقالية المختلفة وجعل السلطة مركزة بين أفراد قلائل هم السادة أعضاء مجلسي السيادة والوزارء. فقد كان من الأصوب تحديد نسبة من المقاعد للحركات المسلحة يتم ملؤها بعد توقيع الاتفاقيات معها ومشاركتها في أجهزة الحكم، جرياً على سوابق عديدة حدثت في الفترات الديمقراطية السابقة، عوضاً عن تجاهل تشكيل المجلس بأكمله.
ولا شك أن عدم وجود المجلس التشريعي قد أضعف من أداء الحكومة الانتقالية، ففوق أنه جعل من مجلس الوزراء جزء اصيلاً من الجهاز التشريعي ومن ثم اهدر قيمة الفصل بين السلطات، فقد أفقد الحكومة الرقابة البرلمانية وجعلها في منأئى عن المساءلة والمحاسبة اللازمة لشحذ همتها والاشارة لها بالاتجاه الصحيح الذي يتعين أن تسلكه.
2- نصت الوثيقة الدستورية في البند (1) من مادتها رقم (29) على إنشاء مجلس للقضاء العالي يحل محل المفوضية القومية للخدمة القضائية، ويحدد القانون تشكيله واختصاصاته ومهامه. وبهذا النص رسمت الوثيقة الدستورية طريقاً واضحاً لإدارة شؤون السلطة القضائية وإجراء التحولات المطلوبة فيها بما في ذلك إزالة التمكين الذي ظل يؤسس له نظام الانقاذ طيلة ثلاثين عاماً. إلا أن القوم عوضاً عن اتباع هذا السبيل المأمون المرسوم دستوراً في التعامل مع السلطة القضائية ذهبوا يصطرعون حول مفوضية ليس لها اساس دستوري ولا تسندها حكمة قانونية هي مفوضية إصلاح المنظومة الحقوقية والعدلية، وقد أقعد هذا الصراع عن القيام بالواجب المباشر في التعامل مع السلطة القضائية، وإجراء الإصلاح المطلوب فيها وتهيئتها لأداء واجبها كأحد السلطات الثلاث الأساسية في الهيكل المؤسسي للدولة. واستغرق هذا الاصطراع طيلة الفترة السابقة من عمر الفترة الانتقالية، وبدد جهدها في غير طائل.
3- انعكس عدم تشكيل مجلس القضاء على وضع آخر أقل ما يمكن أن يقال عنه أنه مخجل، وهو الفشل في تشكيل المحكمة الدستورية لفترة تقارب ستة أشهر، فقد انتهت فترة ولاية السادة القضاة السابقين في يناير 2020ـ وكان يتعين وجود خطة واضحة لاستبدالهم خاصة وأن النية كانت واضحة قبل انتهاء ولايتهم تتجه لعدم تجديد مدتهم لفترة جديدة ، وذلك تفادياً للدخول في فراغ عريض بحجم أهمية المحكمة الدستورية في مثل الظروف التي تمر بها البلاد. ففي منعطفات الانتقال من الأنظمة الشمولية إلى الأنظمة الديمقراطية فإن المحكمة الدستورية أو الدائرة الدستورية في النظم التي تعدها أحد مكونات السلطة القضائية، يكون لها دور متعاظم بحسبانها ضامن أساسي لحقوق الأفراد والجماعات، وضابطاً للمد الثوري من الانفلات.
4- تم غض الطرف عن مفوضيات استحدثتها الوثيقة الدستورية، للقيام بمهام محددة ذات علاقة بواجبات الفترة الانتقالية واقتطعت لها حيزاً في هيكل الدولة العام خصماً على المؤسسات المتعارف عليها من الوزارات والهيئات إمعاناً في أهميتها مثل مفوضية الإصلاح القانوني التي كان يتعين أن تلعب الدور الأكبر في دراسة التشريعات وتمحيص أحسن القواعد التي تؤدي إلى الهدف المطلوب، ومفوضية مكافحة الفساد واسترداد الأموال العامة، التي كان يعول عليها في دراسة كافة ملفات الفساد دراسة مؤسسة تأسيساً جيداً، وتقديم ملفات ناضجة للقضاء للبت فيها، ومفوضية العدالة الانتقالية التي تبحث في اختيار النموذج الذي يلائم أوضاع السودان للخروج من نفق المظالم وعرض المجرمين على ميزان العدل، وغيرها من المفوضيات المسماة في الوثيقة الدستورية. وعوضاً عن هذه المهام الواضحة الملزمة توارى القوم عنها، وذهبوا مذاهب مختلف عليها في معالجة أهداف الفترة الانتقالية.
تمثل الوثيقة الدستورية خارطة طريق أساسية لعمل الفترة الانتقالية، وعلى هداها يتم جرد الأعمال ومحاسبة كسب الأداء المؤسسي في الدولة. وفي المقابل فإن تجاهلها يمثل خروج عن عهود الثورة، ومن الأولى الانتباه لما حددته من مهام وما أوجبت قيامه من مؤسسات على السرعة المطلوبة ، باعتباره الحد الأدنى المتفق عليه بين قوى الثورة، للدفع بتنفيذ مهام الفترة الاتقالية للأمام.
The post تشكيل مؤسسات الفترة الانتقالية كما حددتها الوثيقة الدستورية وحسابات الفشل والنجاح.. بقلم د. أبوذر الغفاري بشير عبد الحبيب appeared first on السودان اليوم.